عندما تشتدّ الأزمات عادةً، تزيد همّة المجتمع الدولي لإنشاء منظّماتٍ لحلّ تلك الأزمات ومنع تكرارها في المستقبل.
وهكذا تمّ تأسيس عصبة الأمم، عقب مؤتمر باريس، عام ١٩١٩، والذي أنهى الحرب العالميّة الأولى، ليُصبح دورها الحفاظ على السلام في العالم. كانت أهداف عصبة الأمم الأساسيّة منع قيام الحرب، وحلّ المنازعات الدولية بالطرق السلميّة، لاسيما بالمفاوضات والتحكيم الدولي، وفق ما ورد في ميثاقها. سرعان ما اصطدمت العصبة بقوّة الدول العظمى بالتحكّم بقراراتها، فأثبتت عجزها عن حلّ الأزمات الدولية وفرض هيبتها على دول العالم، إلى أن نشبت الحرب العالمية الثانية لتكون بمثابة الدليل القاطع على فشل عصبة الأمم في عملها، فاتُّخذ القرار بحلّها نهائيًا.
ومع انتهاء الحرب العالميّة الثانية، اجتمع المجتمع الدولي مرّة جديدة ليقرّر إنشاء منظّمة الأمم المتّحدة. أتت هذه المنظّمة خلفًا لعصبة الأمم، وللأهداف نفسها، مع بعض الأهداف والأعمال الإضافية. وقد حدّد ميثاق الأمم المتحدة الغاية من تأسيسها بالمحافظة على السلم والأمن الدوليين، وبتنمية العلاقات الوديّة بين الدول على أساس احترام مبدأ المساواة في الحقوق وحق الشعوب في تقرير المصير وتعزيز احترام حقوق الإنسان والحريات. فماذا تغيّر في العالم لتعطي المنظّمة نفسها وبالأهداف نفسها وبالممثلين أنفسهم، نتيجة مختلفة؟
لم يتغيّر شيء، وربّما لذلك لم يشهد العالم أيّ تطوّر إيجابي في هذا الخصوص.
فماذا فعلت الأمم المتّحدة، في أولى امتحاناتها، أمام الاحتلال الإسرائيلي لدولة فلسطين عام ١٩٤٨؟ لا شيء. شاهدت احتلال أراضٍ وبيوتٍ وأرزاقٍ، واعتقال وتعذيب أبناء الأرض حتّى يومنا هذا، فنسيت أن تتخذ "التدابير لمنع الأسباب التي تهدّد السلم"، وتركت كيانًا يغتصب حقوق شعب ودولة ليبدأ نزاع طويل لم ينتهِ حتّى يومنا هذا.
بعدها، نشبت أزمات الحرب الباردة من حرب الكوريتيْن، إلى حرب فيتنام، وصولاً إلى الحرب الكوبيّة وأزمة الصواريخ، فماذا حلّت منها؟ لا شيء. أجّلت الصراعات لتتحوّل إلى أزمات يمكنها أن تنفجر في أيّ لحظة، وأزمة أسلحة أثقل من الصواريخ كالأسلحة النووية… وفي الباطن، تحكّم الدول الكبرى بالعالم عبر الترهيب والتخويف والحروب الاقتصادية الباردة.
أمّا في المنطقة، فماذا فعلت طوال سنوات الحرب الأهلية اللبنانية؟ لا شيء. أرسلت مبعوثاً من هنا، ومبعوثاً من هناك، والمياه العكرة تجري تحت قدميها؛ تمويل دول لإشعال الفتن، فبيع السلاح لتنظيم مؤتمر في نهاية الحرب وفرض الشروط الدولية على لبنان.
وفي العراق، غزت الدول العظمى البلاد، وقرّرت إعدام الرئيس العراقي صدّام حسين، فماذا فعلت؟ لا شيء. تذكّرت مصدر تمويلها ففضّلت السكوت للبقاء على قيد الحياة.
وآخر الأزمات والمنازعات الدولية الحرب الأوكرانية واحتلال آرتساخ وحصارها.
ففي الأولى، تذكّرت الأمم المتّحدة والمجتمع الدولي حقوق الشعوب والحريات والقوانين الدولية، لتصبح الحرب الأوكرانية حديث العالم، وكدنا نصدّق أنّ شرطي العالم قد استيقظ من نومه ليقوم بعمله، قبل أن تطول الأزمة حتّى الساعة، فتُذكّرنا أنّه مجرّد صراع بين الدول العظمى، وتجنيد لوسائل الإعلام العالمية للوصول إلى أهدافهم السياسية.
وفي الثانية، أي احتلال آرتساخ، وفرض حصار عليها. عاد واختفى الشرطيّ، لا بل حوّل أنظار سكّان العام كلّها نحو أوكرانيا، فاحتّلت أذربيجان أراضي من جمهورية آرتساخ، واغتصبت ممتلكات، ودمّرت آثاراً، وشوّهت ثقافة، وهجّرت الأهالي… وآخر بدعة، فرضت حصاراً على آرتساخ لتكمل سياسة الإبادة الجماعية، التي تعلّمتها من معلّمها الباشا التركي. فأين الأمم المتّحدة من كلّ هذه الانتهاكات والتعدّيات؟ أين حق الشعوب في تقرير المصير؟ أم أصبح شعارًا في ميثاق المنظّمة؟ أين المنظّمة من العمل لفكّ الحصار عن آرتساخ ومساعدة الأهالي الذين أصبحوا بلا ماء ولا أكل ولا كهرباء منذ أشهر، أم أنّها تفضّل دفع مساعدات للاجئين السوريين في لبنان حتّى لو أصبحت أراضيهم بمعظمها آمنة خدمةً لمصالح المموّل الكبير؟
لا شكّ فيه أنّ تلك المنظّمات الدولية مهمّة لإدارة شؤون العالم، ولتسهيل العمل بين الدول، لكن عليها أن تتعلّم من أخطاء أسلافها، فإمّا أن تقوم بعملها بشكل جدّي، أو ينتفي سبب وجودها فتتلقى نفس مصير المنظمة السالفة…الحلّ.