ما دام السبب نفسه موجودًا فنتيجته حتمية؛ مادام الظلم قائمًا فثورة حتمية في الأفق، لا تتوقع أن تسلك طريقًا وينتهي بك في مكانين مختلفين، لن يحدث ذلك... ظلم يعني ثورة، وكلما ازداد الطغيان تزوَّد المظلوم من الإرادة، حتى إذا ما فقد كل ما يمكن أن يخسره، وأصبح الوجود أثقل من الغياب، والحياة أبأس من الموت، واليأس أصبح مرأى العين في كل ما حوله من سواد... انتفض في داخله طمع بشري أصيل بالحياة، كقفز المرء من هول القذيفة.. تحوّل إلى بصيص اتفقنا على تسميته بالأمل، يجعله يحول تفكيره إلى أن هنالك "ممكناً" يستحيل حلمًا ليتحول فورًا إلى هدف يجب تحقيقه، ثم إلى فكرة واجبة الوجود في يقينه... ثم إلى عقيدة... إسقاط النظام، والوطن الحر أصبح عند السوريين عقيدة، كلٌّ متمسك بها بقدر تمسكه بإنسانيته، بل بآدميّته وحياته، فإن أُخمِدت ألف ثورة، ستظل هنالك ثورة تشتعل من جديد بزهاء الأولى، وهذا أجمل ما في الأمر وأسوأ ما فيه.
نتمنى ألّا تتكرر...
الحرية ثمينة - هي حق- لكنه لا يقدم على طبق من ذهب، ثمنه دائمًا الحرب والدمار فالثورة على مجرم فيها أهوال وآلام وخسائر جديدة وذاكرة شاحبة… ومع كل تكرار نهبط سلمًا باتجاه الحضيض وسيصبح البناء أصعب وتكلفته وقتًا وبشرًا وموارد ستزيد، وتتوسع تشققات المجتمع؛ إلى أن تنجح ثورة ما في نهاية المطاف، لتبدأ بداية جديدة، فنحن أمام خيارين؛ أسهلهما الكَي... نعم، أن نكوي هذا النزيف المستمر بكل ما أوتينا من تحمل، وبكل ما بجعبتنا من نار الإرادة والإيمان بما نقوم به.
أما الخيار الآخر، فهو أن ننتظر أبناءنا ليموتوا أمامنا في ثورة جديدة، أو يحملونا معهم من جديد في خيام الله الواسعة تحت برد الثلج ونار الصيف وأمواج البحر وموجات خطاب الكراهية، لنلومهم بصوت متهدّلٍ وظهرٍ منحنٍ على ما فعلوه بالبلد، وكيف أنهم لم يتعظوا بما مضى…
لن يتّعظوا أبدًا.. لن يقبلوا بما نعيشه كما لم نقبل نحن.. فكيف يقبلون هم بما هو دون ذلك…!؟
لن يقبلوا.. لأن ثمّة طمعاً أصيلاً بالحياة.. يغدو مع الوقت عقيدة.. تخلق ثورة أقوى لتسقط النظام... فلنكوِ جراحنا، ولنحمِ أنفسنا وأبناءنا ولنسقط النظام.
لكن..
إذا تكرر السبب نفسه، فتكرار النتيجة حتمي؛ إذا تحكم بنا مال الخارج وتفرقت أهدافنا عن الهدف الأساسي، وسمحنا للطابور الثالث بالدخول بيننا وأردنا تقاسم المكاسب قبل الكسب، وتناطحنا، وانتظر كل منا مبادرة الآخر وتضحياته، لنؤكل مأكَلة الثيران الثلاثة، وضاعت مشاربنا... سنغرق بالأسف والدم والدمار، وذاكرة نتمنى لو نفقدها... وستتكرر... أرجو ألّا تتكرر.