أسعد اللحظات التي تمر على الأم والأب عندما يرون فجأة "السند" في أبنائهم...
كنتُ أحمل حقيبة ثقيلة، عرض علي ابني حملها عني، رفضت إشفاقًا عليه من الحمل، لكنه أصر، وقد ازداد طولًا بينما تضاءل حجمي في المقابل، فكان ينظر إلي ضاحكًا ويقول "صرتُ أطول منكِ"، بل إنه حملني ذات مرة، وكنت أردد له مقوله سمعتها "أن الأم تعطي نفسها روحًا وجسدًا لأبنائها، فكلما كبروا، تضاءل حجمها، وتزايدت سعادتها". حمل ابني الحقيبة الثقيلة بشيء من الجهد، رحت أراقبه بشفقة وسعادة غامرة، لقد كبر وصار يحمل عني أثقالي بطيب خاطر، وأستند إليه مطمئنة.
في يوم تالٍ، وقعتُ وصديقتي في مأزق، لجأنا إلى ابني الآخر، راح يتحدث إلى كل منا مطمئنًا يحاول حل المشكلة، ويحتوي فزعنا الذي يزداد من أقل الأشياء كلما كبرنا في السن، كانت المشكلة تافهة وبسيطة، بعث بداخل كل منا طمأنينة، حمل عنا همنا، بينما يتحمل مسؤولية عمله، لم يتردد ثانية في التواصل معنا، كبر الصغير، وصرنا نلجأ إليه بعدما كان يلجأ إلينا.
منذ أيام قرأتُ منشوراً يقول "أبناؤكِ ليسوا سندكِ، أنتِ سند نفسكِ، ويجب التوقف عن هذه الجريمة في حق الأبناء، بأننا نحملهم مسؤوليتنا لأننا أهلهم، وعلينا الاعتماد على أنفسنا".
هذه فكرة "مستغربة"، ولدت في الغرب ونقلها المصابون بعقدة الخواجة دون تفكير في الفرق بيننا...
العلاقة بين الأهل والأبناء في الغرب لا تحمل مفاهيمنا الاجتماعية ولا الدينية، لديهم على سبيل المثال مفهوم "الاستقلالية"، يعني أن ينفصل عنهم الأبناء عند الوصول إلى سن معين، عليهم العمل والاعتماد على أنفسهم وتدبير نفقاتهم الخاصة، (إلى هذا الحد الكلام معقول ومنطقي ولصالح الطرفين). وعليهم الاستقلال في مسكن خاص بهم، وينفصلون تمامًا عن الأهل، وتتقطع الروابط بينهم، فلا الأبناء ملزمون بالسؤال عن أبويهم، ولا الآباء مسؤولون عنهم!! وفي حالات تنقلها لنا بعض الأعمال الفنية توجد حالة من الصراع والخصومة الشديدة بين الأب وأبنه، أو الأم وابنتها، ويتجاهل الأبناء تقدم أبويهم في العمر، وما يتبعه من خفوت قوتهم، وضعفهم صحيًا وجسديًا.
نقلنا هذه الصورة والأفعال إلى واقعنا دون تفكير، متجاهلين أخلاقيات ومفاهيم أساسية لدينا، مفاهيم متبادلة المسؤوليات بين الأهل والأبناء، مثل "بر الوالدين"، "صاحبهما في الدنيا معروفً"، وهي ملزمة للأبناء للاهتمام بآبائهم في كل مراحل حياتهم، ورعايتهم وعدم التخلي عنهم، ومعاملتهم بالود والرحمة والمحبة، وفي أصعب الحالات والتي تصل إلى "الشرك بالله" مصاحبتهما بالمعروف والإحسان، والنهي عن القسوة عليهم.
ومن جهة الأهل فقد وصف الله سبحانه وتعالى أبناءهم بأنهم "قرة أعين"، أي بأغلى ما يمتلكه الإنسان، ووصفهم بزينة الحياة الدنيا، وكثير من الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة التي تأمر الأهل بحسن رعاية وتربية الأبناء، وتهذيب أخلاقهم، وتناولت أدق التفاصيل. منذ فترة الحمل إلى الوضع، والرضاعة والرعاية، إلى بلوغهم سن الاعتماد على أنفسهم، وإعدادهم ليبلغوا الرشد، والرشد لا يعبر فقط عن العمر، بل يشير إلى رجاحة العقل وحسن التفكير. حتى اختيار أسمائهم، أمرنا الرسول محمد (صلى الله عليه وسلم) بحسن اختيارها؛ لأنها ستصاحبهم طوال العمر، وكم من الأبناء لجأ إلى القضاء لتغيير اسمه لأن أهله أساؤوا اختيار اسمه.
لذا فإن مفهوم "السند" لن نفهمه إطلاقًا لو اقتصرنا على نقل الأفكار الغربية فقط، فهو "مفهوم" مجهول بالنسبة إليهم، يجردونه من معانيه الأخلاقية الرفيعة السامية، ويشوهونه ليصبح بمعنى "الحمل الثقيل" على الطرفين.
وها أنا أكتب هذه السطور من وحي تجربتي مع أبناء لم أنجبهم، لكنهم كانوا لي السند، وأرى منهم الترجمة الواقعية للمقاصد الأخلاقية للمفاهيم القرآنية، بل المفاهيم الدينية بوجه عام، إذ تجتمع تعاليم الرسالات السماوية على "بر الأبناء بالوالدين"، وبر الوالدين بالأبناء".
حقًا لم أستطع أن أكون أمًا لطفلٍ واحد... لكن لدي من يرونني أمهم... لدي السند.