النهار

في الألم أمل...
سمعت مرة قولاً للشاعرة "نادية تويني": لماذا لا نتحاور بدل أن نتقاتل؟"، فشعرت حينها بحرقة قلبِ لبنانيّةٍ
A+   A-
سمعت مرة قولاً للشاعرة "نادية تويني": لماذا لا نتحاور بدل أن نتقاتل؟"، فشعرت حينها بحرقة قلبِ لبنانيّةٍ، تحمل أمنيات الشفاء لوطنها. فمن قال إن الأحلامَ بعيدة عنّا؟ وكيف لنا ألا نحلم في زمن باتت سلبية الأزمات فيه تخنقنا، وأخبار النعي في لبناننا تلاحقنا؟ لا خبرَ سارًّا يأتي، ولم يتركوا للحوار "مطرح"! أمّا "الحل لأيّ مشكلة فموجود مسبقاً، وكلّ ما علينا أن نفعله هو أن نسأل الأسئلة الصحيحة التي تكشف الحل". لطالما كانت الشاعرة نادية تويني من أوائل من تنبّأ بالحلّ، فرأت الأحداث برؤية عميقة، صارخة بأنّ القتال يهزم الجميع!
أردت حينها أن أضع المشكلات جانباً، وأن أتمسك برجاء الإصلاح بعد أن خسرته، لأحاول إيجاد الحلول ومعنى للثغرات الموجودة. بدأتُ أتأمّل جمال لبنان، ورأيت قطعةً أرضيّة صغيرة، ومعجزة أقرب إلى الجنة، لكنني لاحظت أن أسباب القتال والحروب فيها هي نفسها العلاج. فكم صحّ قولُ أبو نواس حين كتب: "داوني بالتي كانت هي الداء". فكّرتُ بعدها بأسئلة قد لا أجد الأجوبة الدقيقة لها، لكنني قد أستطيع تدوين فرضيات واقعية. وكان أول سؤال شغل تفكيري هو: "لماذا لبنان؟ لماذا الصراع عليه؟".
تهتُ بخيالي، برؤيةٍ وطنية لبنانية. وجدت صورة لحجم لبنان الجغرافي الصغير، وخريطة لمساحة لا تقلّل من قيمته، بل على العكس جعلت منه ميدانًا للمنافسة بين "الداخل والداخل"، وبين "الخارج والخارج"، حتى أصبح مسيّجًا بالتحديات التي تتطلب الحفاظ على تنوّعه الجغرافي والديموغرافي والثقافي وعلى "ثرواته الطبيعيّة" كذلك. لمحت بها بلدًا يتميّز بموقع استراتيجي ووجهة سياحية - تجارية تطلّ على ساحل البحر الأبيض المتوسط، يحيطه العديد من الدول، إذ تمنحه قيمة كبيرة جدًا. افتخرت لحظتها بموارده الطبيعية التي يمكن أن تضعه في موقع مثالي لجذب الشركات العالمية والاستثمارات الناجحة. تذكّرت كم تأثّرتْ مساحات لبنان المتوارثة، الأثرية والقيّمة، بتاريخ الحضارات المتعاقبة، بدءًا من الفينيقيين وصولاً إلى التنوع المذهبيّ الحالي بوجود أكثر من ثماني عشرة طائفة مختلفة، لكل منها ثقافة ونظرة حضارية فريدة. وبسبب حجم وطننا الصغير المتميّز، سمحت لنا الفرصة للعيش ضمن تنوع سكانيّ، وفي مناخ اجتماعي مشترك أتاح للّبنانيين التفاعل بانفتاح وودّ مع مجتمعات العالم المختلفة. وبفضل هذه المقوّمات الثقافية والجغرافية، نجح شعب لبنان بين الشعوب العربية كلّها في أن يكون رائدًا في إدخال الحرية الفكرية والرفاهية إلى المنطقة بأكملها.
في الحقيقة، إن تسلسل الأحداث والمشاهد والوقائع لغزٌ يستحيل حلّه، في حين أن ثمّة "حروفاً ناقصة" و"حروفَ علّة" تبعد لبنان عن إمكانية لعب دورٍ فعال في أن يكون "همزة الوصل" بين الشّرق والغرب. تساءلت بعدها: "لِمَ لا يصبح وطننا الجسر الثقافي والتجاري بين الشرق والغرب؟ وماذا يحتاج اللبنانيون الأذكياء لكي ينجحوا في ذلك؟" فبدأَت تكرّ الأفكار كحبوب المسبحة، ، بدءًا من الأسباب حتى "مَن السبب"؟
وكلّما أتوه بأحلام الإصلاح وأفكار الرجاء تضلّلني أفكار اليقظة، أفكارُ غياب الدولة اللبنانية، كأن لا محلّ لها من "رعاية الوطن وأبنائه"، وأعود إلى آلام الواقع متذكّرةً أسباب عجزنا. وحين أحببتُ التلذّذَ بذاك الخيال الجميل، وتعلّقت بصورة وطنٍ لا تذهب دماء الشهداء والشباب فيه سدًى، وبهيكلية دولة تستحقّ التضحية والنضال، وبشعب مستقل تغمره السعادة والإنتاجية، لم أرغب أبدًا بالعودة إلى الحقائق المأساوية. كانت دائمًا فكرة النزاعات الدّاخلية الطائفيّة، وروح التعصب المدعومة بخطابات الكراهية المستمرة، تحرق في أعماقي مشهد وطني الجميل والمجتمع الراقي. وكان دائمًا استغلال الدين والعقائد المجتمعيّة سلاحاً متيناً للفاسدين، ليضمنوا مجالسهم الفاسدة. لم نشهد منذ استقلال لبنان حتى اليوم منظومة حاكمة واحدة مسؤولة، تتعهّد بالعمل على مشاريع جديّة ذات أبعاد مستقبلية تضمن حياة الأجيال المقبلة. تكدّست المسؤوليات وتجلّت أسباب العجز بالإفراط بثرواتنا، وبالاعتماد على نظام ريعيّ، مفتقرٍ للاستثمارات الإبداعية وللصناعات اللبنانية الحرفية وللمشاريع المستدامة. ومع تكاثف الأزمات، تبعثرت الجنسية اللبنانية متجذّرة إلى انتماءات سياسية ودينية وحزبيّة عدّة! غابت الحوارات، واحتلّت المعارك الداخلية مكان السّلم. أصبح المجتمع قسمة للمجتمعات، ولكلّ "جماعة" زعيم، وعلى رأس الزعيم، قادة من "المجهولين" الخارجيين. وعندما كان لبنان بأمس حاجته لرئيس "أبضاي" ولشعب "متماسك" يقظ، يبعد الوطن عن الابتزازات السياسية، إذ يستحيل إقحامه بالنزاعات الطائفية والعقائدية والدولية، و... لم يجد خلاصه!
ربما بين حلم كلّ لبناني يشبهني وبين الحقيقة خيط أشبه بإرادة التحقيق. والإرادة تكمن بالحوار، والحوار يخلق علاقات دولية متينة تفتح أسمى الفرص أمامنا. فلِم لا نكون المسؤولين عن أنفسنا، بعيدًا عن مساعدات الغرب الآسرة، وبدل أن نكون حلقة ضعيفة، نصبح جهة مفاوضة لها مواقفها المستقلّة وعلاقاتها الدّبلوماسية؟ فماذا ينقصنا لكي نجعل موقع لبنان خطّاً اقتصادياً يربط الصين وأميركا؟ قد تكون فكرة ساذجة، أو حلماً بعيداً من الواقع، لكننا في دنيا المعجزات، ولكلّ ألم... أمل! لنبقي أحلامنا يقظة، فقد تتحقّق يومًا ما!







الكلمات الدالة

اقرأ في النهار Premium