هل سننتظر خمسين سنة من الخيبات لكي نسعد بنصر إخوةٍ لنا، ونحن في مآمن خوفنا، ومكامن رجعيّاتنا، وعواصم الإمبريالية، نحتمي بالشعارات، ونعدّ الخطابات التي لم يعد يسمعها أحد، أم أن النقطة الفاصلة في التاريخ لا تسمح إلا بالمجد الأبدي أو الأفول من دون رجعة، ولنا الاختيار دائماً؟!
رمزية النصر في أكتوبر بالذات:
لبثت أجيال برمتها لخمسين سنة تنهل من ذكرى العبور أحد فصول الشرف العربي، وتفاخر به خيبات الأجيال من بعدها، وتحلم كل يوم بعبور جديد ينتهي به العدو التاريخي للأرض والإنسان العربي؛ حتى تزامن هجوم المقاومة الفلسطينية على مستوطنات غلاف غزة في نفس التاريخ تقريباً أعاد إلى ذاكرتنا الجماعية حرب أكتوبر بتفاصيلها، والتي عنونت سنوات عدة من التخاذل في إتمام النجاح.
لكن الأمل في أن يكون أكتوبر منصفاً يحرك في كلّ مرة أملنا الصبياني في أن نظلّ منتصرين، وألا نعود إلى الوراء قيد أنملة كما فعلت بنا كامب دايفيد.
لكن، إن كتب لنا النصر مجدّداً في، أكتوبر فإنه لن يرتضي لنا الخذلان مرة أخرى.
العملية العسكرية النوعية لحماس:
تواترت على الفضائيات وعلى مواقع التواصل الاجتماعي فرضيات عدة حاولت جميعها أن تحاكي عقل قيادات المقاومة في رسم ملامح العملية العسكرية النوعية والجديدة كلياً في فصول الصراع العربي - الصهيوني، غير أن أغلبها لم يكن مقنعاً، وتوقّف عند حدّ التخمينات، حيث إن تفاصيل العملية لا يمكن تفكيكها بالتخمين إنما تقطع باليقين بأنّها نتاج لسنوات طويلة من التفكير ومراكمة الخيبات والنجاحات الرمزية التي قد لا تبدو للبعض مهمة بقدر انطوائها على تفاصيل مهمّة، انتبهت لها المقاومة وحدّدت بوساطتها دائرة تفكير العدو وحظوظه، إذا ما نجحت إلى جرّه إلى مربّع القتال بعتادها هي، وليس بعتاده الإمبريالي المتطاول على حق الفلسطينيين في كل الأرض.
بناء النجاح العسكري:
أغلب ردود الأفعال الصادرة عن إعلام العدو كشفت هول الصدمة من التحول النوعي، الذي شهدته المقاومة الفلسطينية، من الدفاع إلى الهجوم المركّب، الذي جعل العدو يقرّ بفشله الاستخباراتي في توقّع العملية برمّتها أو حتى الاستعداد لمثيلاتها. وقد شكّل عنصر المباغتة والتنوّع العملياتي عنصراً حاسماً في كشف وهم التفوق العسكري لجيش العدو.
فلسطينكذلك برهنت عزيمة المقاومة على أنها تريدها أن تكون معركة الخلاص الأبديّ، وأن تفكّ الحصار المضروب على قطاع غزة، وأن تمتدّ إلى تخوم الضفة الغربية لتصحيح جغرافيا العدو الذي يبدو أن استسلامه لتفوقه العسكري جعله متغافلاً عن التطور التكتيكيّ، الذي أبدعت فيه المقاومة الفلسطينية وأعادت إلى الشعوب المضطهدة الأمل في كسر حواجز الظلم الذي تناسته منذ حرب فيتنام.
الدور العربي في مؤازرة العملية العسكرية:
سارعت الإمبريالية العالمية إلى محاولة توجيه المسألة نحو صالونات المفاوضات، ذلك الملعب الذي تحسن اللعب فيه، وتتخير لاعبيه؛ لذلك كان الحلّ الأسهل هو الاعتماد على الثقل الإقليمي لمصر لقيادة الوساطة مع حماس، حيث تستفيد القوى الكبرى من خبرة مصر في إدارة المفاوضات التي أدّت إلى الحسم في عديد التوترات، التي انتهت إلى هدوء حذر وتحويل تعامل الكيان الصهيوني مع غزة إلى مجرد رد الفعل، وحصر أطماعه الاستيطانية في محيطها، الذي افتكته المقاومة خلال ساعات برسم السلاح الثائر.
من جانبه، كان حزب الله واضحاً من خلال توجيهه ضرباتٍ صاروخية نحو العدو من جنوب لبنان في ثاني أيام العملية، بما يوحي باستعداده للدخول كلاعب محوري في العملية العسكرية. وهنا أحرج حزب الله حزام الممانعة العربية من دول الجوار، التي لم تكشف إلى حدّ الساعة عن مواقفها الرسمية التي لن يقبل التاريخ إلا أن تكتب مواقفها بالسلاح لا غير.
هذا التحول النوعي في العملية العسكرية لا بدّ من أن يفضي إلى تحول نوعي في التعامل مع المقاومة الفلسطينية في غزة، بانتظار أن تتوحد هذه المقاومة حول نوعية الاشتباك لتنهي سبعينات الكيان الغاصب الذي يبدو أنه صار هرِماً جداً أمام مقاومة فتية بعثرت أوراقه ذات خريف قائظ لم يؤرخ التاريخ له من قبل.