بالرغم من تعاظم المواقف المدنيّة وتصاعد الوعي المجتمعيّ في العديد من الدول بعدالة القضية الفلسطينية فإن الإمبريالية العالمية ماضية في حرب إبادة الفلسطينيين بدماء باردة وسواعد ثقيلة على الأبرياء والعُزّل.
لم تعرف هذه القبضة إلى حدّ هذه الساعة ارتخاءً لأعصابها القاتلة والشوفينية بالرغم من التكلفة الإنسانية للحرب، وبالرغم من تدنيس سرديّتها بقتل الأطفال والنساء وتكبّدها لخسائر غير منتظرة على الأرض.
القتل والاستيطان وأدبيات الإبادة:
خلال أزيد من عامين حاولت الإمبريالية العالمية التدثّر بوهم نصرة أوكرانيا أمام الأطماع الاستعمارية المفترضة لروسيا. وبالرغم من هذه البروباغندا فإنها لم تكن مقنعة ولا واقعية، بل اصطدمت بمواقفها المتطرّفة عندما تعلّق الأمر بالأراضي الفلسطينية.
يطفو على الساحة مجدداً اختلاف موازين الحق في الحياة في أدبيات الإمبريالية العالمية التي ثبت بالكاشف أنّه "ليست كل الرؤوس سواء" لديها، وأن أطماعها الاستعمارية قادرة على تجزئة "مبدئيّتها" في التعاطي مع الصراع الروسي - الأوكراني مقارنة بالصراع العربي – الصهيوني. وهنا تأكّد لدى مواطن العالم أن القتل أو حتى الإبادة الجماعية ليس مما يُحرج الدول الاستعمارية التي زايدت ونظّرت مطولاً لمُثلٍ لا تتبناها، وإنما تنصح بها فقط، متى تعلّق الأمر بحلفائها الاستراتيجيين أو أعداء حلفائها الذين تتبنى من أجلهم فكرة القضاء عليهم، من أجل التوسّع على أراضيهم، وفسخ هويتهم لتثبيت مندوبيها فوق ما لا تملك.
تصاعد المواقف المناهضة للإمبريالية:
لم تكن القضية الفلسطينية يوماً بحاجة إلى نجوم السينما والفنانين وكبار السياسيين في العالم الحرّ لنصرتها حتى تتسلّط الأضواء على مدى إجرام الكيان الصهيوني. لكن سياق اهتراء الجبهات النخبويّة لدول الإمبريالية كشفت، ولو بصفة جزئيّة، قصور الدعاية، التي تنفق من أجلها هذه الدول الأموال الطائلة لترسيخها على الأقلّ في أذهان سياسييها وفنّانيها.
هذه المواقف الحرة أسقطت أيضاً وهم الانحياز الأعمى لقوميات القتل والتعالي الإنساني التي شرّعت لها دول الفيتو والاحتلال، إذ جعلت من الحرب لعبتها في ملاعب الشرعيّة الدوليّة التي تُديرها بالتأييد أو النقض خدمة لأطماعها الاستعمارية، وترسيخاً لهيمنتها على مجالات واسعة من العالم، مسخّرة لذلك نجومها المؤثرين للحفاظ على سردياتها المجتمعيّة بأنها دول الحرية وحقوق الإنسان والسلام العالمي، ثم لتجد نفسها اليوم بمواجهة المؤثرين أنفسهم، الذين استعملتهم طويلاً في هذه البروباغندا، والذين واكبوا عن وعي أو طواعية أو حتى لأهداف مصلحيّة بحتة الوعي الجماهيري بعدالة القضية الفلسطينية. ولنفترض أنهم ذهبوا في هذا المنحى لأغراض تجارية خوفاً من المقاطعة، فإن موقفهم هذا يشكّل بدوره صفعة للإمبريالية التي جعلت لكل شيءٍ ثمناً.
اشتباك المقاطعة مع مصالح الإمبريالية
بالرغم مما تنفقه الإمبريالية على التسليح وخلق النزاعات المسلّحة في العالم، فإنها تصطدم اليوم مع حرب مدنيّة معلنة غير مكلفة للشعوب، عتادها التحجيم الاقتصادي لمصالحها، إذ تحوّلت بضائع الشركات الداعمة للكيان الصهيوني إلى سلاح مدنيّ يهزّ الطفرة الاقتصادية للدول الكبرى التي لم تتوقع يوماً أن تفتح جبهات متعددة وبسيطة مع "حرفائها" في مناطق واسعة من العالم، وحتى من داخل أسواقها الكلاسيكية في توقيت تحتاج فيه إلى كلّ فلس لتمويل حربها التوسّعية، من أجل كسب أسواق جديدة وبعثرة التكتلات الاقتصادية الصاعدة...
اليوم تتكبّد كبرى الشركات خسائر فادحة لمجرّد أن مواطن العالم قرّر أن يشتبك مع الإمبريالية بسلاح صامت لا يقتل الإنسان، ولكنه يقتل موارده المعبّأة لحرب يقتل فيها أخاه في الإنسانية. وهو سلاح يرفع في كلّ الفضاءات المتاحة لشرعنة غضب الشارع وتنامي وعيه بأن الإمبريالية كذبت في كلّ سردياتها، ولا تتقن سوى بيع كلّ شيء حتى وهم الديمقراطية نفسه؛ لذلك آن له أن لا يشتري منها شيئاً مجدّداً.