النهار

المثقّف وتحديات الثقافة
المصدر: النهار - ثناء أحمد - سوريا
المثقّف وتحديات الثقافة
حاولت في هذه الدراسة الوقوف على مفهوم المثقّف وملامحه
A+   A-
حاولت في هذه الدراسة الوقوف على مفهوم المثقّف وملامحه، وصولاً إلى التحدّيات المتعدّدة التي يعاني منها، مستعرضة آراء نقّاد غربيين وعرب، ومتحدّثة عن مواقف وردود أفعال لكلا الطرفين.
وفي الدراسة وقفةٌ مع عدد من المفكرين والأدباء الذين كانت لهم بصمة في التاريخ، لرؤية كيفيّة تعاملهم مع هذه التحدّيات والحال التي وصلوا إليه.
فهل يستطيع المثقف فعلاً مواجهة أزماته الثقافية؟
وهل يستطيع أن يوصل صداه الفكريّ إلى مجتمعه؟ وكيف؟
في هذه الأسئلة وأسئلة عديدة تثيرها هذه الدراسة، قد لا يكون إيجاد الحلّ هو الهدف الأول، إنّما تحفيز الذهن للتساؤل عن موقعنا من الثقافة، ورغبة في الارتقاء نحو الحقيقة.
- مفهوم المثقّف:
لم يكن مفهوم المثقّف متداولاً، فهو مصطلح جديد عُرف - بداية - في فرنسا. وكان سائداً عند العرب - سابقاً- مصطلح الفقيه.
إذا أردنا أن نعرّف المثقّف فأوّل ما يخطر في بالنا، أنّه الإنسان المتميّز بالشهادات وبالمعرفة، بينما ماركس يميّزه بقوله: بـ"المثقّف الذي يعمل عملاً فكريّاً"، ويقول عنه الشاعر الألماني غوته: "ليس الشعراء الكبار شعراء لأنّهم أتوا بأشياء جديدة، وإنما كونهم أبرزوا الأشياء كما لو أنّها تظهر لأوّل مرّة ".
المثقّف في تعريف آخر - وأظنّه الأكثر صواباً - هو من يطرح نفسه بشكل مؤثّر، يفهم المشاكل ويطرح الحلول استناداً إلى رصيد معرفيّ وممارسة أكاديميّة.
ويستطيع أن ينتشل المجتمع من الجهل والتعصّب والطائفية، وعليه ألّا يكون مغروراً ولا متعالياً.. ولا "يوتوبيّاً".. بعيداً عن ازدواجيّة المعايير، حتّى لا يفقد ثقة الناس به.
أقسام وأنواع المثقّف
يقسّم المفكر الإيطالي أنطونيو غرامشي المثقّف إلى نوعين:
- المثقّف التقليديّ: الذي يبقى على الحياد، فلا يعتبر نفسه جزءاً من طبقته، ولا يوظّف إمكانيّاته لمناصرتها.
- المثقّف العضويّ: الذي يشعر أنّه جزء من طبقته، يمثلها وتمثله ويحاول أن يحسّن أحوالها.
ومن خلال قراءاتي وجدت الدارسين يصنّفونهم حسب أدوارهم، إلى المثقّف المحايد الذي ظلّ وفيّاً لوظيفته، والمادّي الذي سلّم واستسلم للمال، والحزبيّ الذي انتمى إلى حزب معيّن وفقد كلمته المستقلّة، والمهاجر الذي اصطدم بالواقع فغادره، ولوّح بأفكاره عن بعد، والمستعرض الذي يتبع الشهرة "مثقّف الكاميرا"، والتراثيّ الذي يدافع عن التراث والعادات والتقاليد.
التحدّيات التي يتعرّض لها المثقّف:
- التحدّي الذاتيّ:
"اعرف نفسك بنفسك"، مقولة مشهورة مازلنا نقرؤها، ومنها أرى أنّ قسطاً وافراً من التحدّيات يقع على عاتق المثقّف، تارة بسبب ارتفاع منسوب الأنا دون أن يعي إمكانيّاته، فيقع في فخّ الادّعاء، بسبب عدم تقبّله للرأي الآخر، فيتحوّل ما هو جماعيّ إلى ما هو فرديّ ويحدث الوهن.
ومن هنا تنتج مواقف سلبيّة تؤدّي إلى تعطيل عجلة المضي نحو الهدف المُراد، وتارة بسبب عدم قدرة المثقّف على مواءمة الخطاب، ومتطلّبات العالم الرقميّ. فبعض المثقّفين لا يستخدمون الحاسوب، في الوقت الذي نحن فيه بمواجهة جيل تحكمه العولمة، وآخرون لا صفحات تواصل لديهم ليطرحوا من خلالها أفكارهم وقضاياهم تحت ذرائع متعدّدة.
إذاً لا بدّ من المواكبة لاستمرار العلاقة بين الكاتب والمتلقّي لتكون المسافة قريبة بينهما.
التحدّي الاجتماعيّ والدينيّ:
يقول أدونيس: "نحن في المجتمع العربيّ لا نتحدّث عن تغيير المجتمع، إنّما نتحدّث عن تغيير السلطة".
نحن في مجتمع لا يحترم المثقّف ويصبّ عليه جام غضبه، وكلّ مفهوم تحرّريّ، تجديديّ يواجه من قبل السلطة الدينية المدعومة من السلطة السياسية والمتدخّلة في الشؤون الحميميّة للشخص، فتجعل من المفكّر ملحداً، كافراً، لا بدّ من التخلّص منه، والأمثلة على ذلك كثيرة.
ولا تزال الهوّة ضخمة بين المثقّف والمجتمع، لم تستطع النزول إليه لأنّه لم يستطع أن يكتب بلغة سائلة.
تحدّيات السلطة السياسيّة:
عندما زجّ موسوليني المفكّر أنطونيو غرامشي بالسجن قال: "يكفي أن نوقف هذا العقل عن التفكير"، وفعلاً توفّي بعد خروجه من السجن بفترة بسيطة نتيجة طرق التعذيب التي كان يتعرّض لها.
أمّا الفيلسوف الفرنسيّ ميشيل فوكو في كتابه المراقبة والمعاقبة فيرى: "أنّ بين السلطة والشعب عقداً يقدّم له الحماية ولها الولاء والطاعة، هو عقد غير مكتوب إنّما منفّذ".
ويرى بأنّ السلطة موجودة في المجتمع، في المدرسة، في المستشفيات، والجامعات، والسجون، وأنّها انتقلت بتطبيق العنف على العقول والثقافات والنفسيات، وبالتالي فهي تحوّلت من سلطة خشنة كانت في السابق تسيطر على الأجساد، إلى سلطة ناعمة تسيطر على الثقافات. وعبد الرحمن الكواكبي يرى "الحاكم لا يحبّ أن يرى وجه عالم أو مثقّف ذكيّ"، والسلطة السياسية لا تستعين فقط بالسلطة الدينية لردّ أذى المفكّر، بل تستعين أيضاً بالعامة للوقوف في وجه النخب المفكّرة وإدانتها، ومن رؤية للناقد والشاعر ميخائيل نعيمة: "إن العلاقة المثلى بين الأديب والدولة هي ألّا تكون علاقة" واعتبر: "من حسن طالع الأدب ألّا تهتمّ الدولة به، لأنّها عندما تهتمّ تسخّر الأدب لأغراضها الشخصية وتجعل من المفكّرين والأدباء أبواقاً لها".
أسلوب المفكر في طرح أفكاره وردّ السلطات عليه:
- لم يحفل سقراط بكلّ الإنذارات التي دعته للبعد عن عقول الشباب، فحكم عليه بالإعدام سُمّاً، لقد اختار المواجهة وقدّم حياته مقابل معتقداته.
- أمّا تلميذه أفلاطون فقد اختار المهادنة والحوار لتغذية الفكر.
- كوبرنيكوس عالم الفلك تهيّب في نشر كتابه الذي رفضت كلّ المطابع نشره، ولم تنشره إلّا قبل موته بقليل.
- غاليليو تحدّى السلطة الدينية وعندما خيّر في المحكمة بين المهادنة والمواجهة، اختار المهادنة وأنكر أفكاره وحكم عليه بالإقامة الجبريّة.
- عبد الله بن المقفّع: في كتابه كليلة ودمنة التفّ بنقده اللاذع بلسان حيوانات، وقد قبض عليه سفيان بن معاوية والي البصرة وأمر بتقطيع أطرافه عضواً عضواً وألقاها في التنّور حتّى أتى على جسده كلّه.
- الرازي: اتّهمه الفيلسوف الغزالي بالكفر في كتابه تهافت الفلاسفة.
- حسن البصري: كاد يعدمه الحجّاج بن يوسف الثقفي.
- ابن رشد: رأوه ملحداً فأحرقوا كتبه.
- جمال الدين الأفغانيّ: هاجمه الوعّاظ وأئمّة المسجد حتّى اضطرّ إلى مغادرة الأستانة.
- عبد الرحمن الكواكبي: عانى من مضايقات عديدة من السلطة العثمانية.
- علي عبد الرزاق: انتزعت شهادته وأوقفوا راتبه.
- ناصر حامد أبو زيد أعتبر مرتدّاً، وطلّقوه من زوجته فاضطرّ للجوء إلى هولندا.
- علي الشريعتي (الإيراني) الذي حكم عليه 18 سنة بالسجن بتهمة الزندقة، ونفي إلى لندن ومات مقتولاً.
- وأخيراً نوال السعداوي التي عنّفت اجتماعيّاً ونبذت وحرمت من المشاركة في المؤتمرات الثقافية الحكومية، وحتّى بعد وفاتها عَنفها العامة.
الأمثلة كثيرة بكثرة مفكرينا، ولكن ما قدّمته نموذجاً لطريقة تعامل الطرفين.
فهل الثقافة جزء من الأزمة أم هي الحلّ؟ هل دور المثقّف غائب أم مغيّب؟ ثمّ لماذا يضع المثقّف نفسه في موقف المقهور، وينتظر من يخلّصه؟ إلى متى سيقف المثقّف بين مطرقة السلطة وسندان العامة؟ والسؤال هل المطلوب من المفكّر المواجهة أم المهادنة؟ هل المطلوب الانتحار من أجل مواقفه؟ والأهم من هذا، هل نحن فعلاً مثقفون؟
هذه الأسئلة وغيرها قيد الإجابة حتى إشعار آخر.

الكلمات الدالة

اقرأ في النهار Premium