السكون دومًا ما يكون في حالة حداد. لا يسائل أحدًا. لا يقهقه ولا يتمتم. يكتفي بالتّسكّع عند ذلك الركن عينه؛ فيراقب مشاعر لم أنفضها منذ زمن فتعفّنت؛ وأخرى أتركها تترعرع هنا وهناك في الشيء الوحيد المتبقي بيني وبين الحياة.
لا أعلم كم من الوقت قد أبقَيتُ عند ذلك المعطف الأسود وكم مرّة سردت عليّ ذكرياتي أني أمتلك أفكاري وزلّاتها غير المبررة وقباحة روايتها المرميّة عند الخوف والحروب، والتي تركت الهروب بحثًا عن مثواها.
كما أنّني لم أجد عندها سوى الشقاء ذاك الذي يختار أن يحتار بين أشياء من كيانين لا تجمعهما سوى العواصف الداكنة.
يمكن أن يقال الكثير عن الأماكن الخالية من الأنفاس المتقطّعة؛ كما يمكن نكران العديد من المرافئ المتروكة أسفل الوسائد؛ وأن تضحى الحدائق مسارح فارغة لا تجوز إلا للعبادة... لا لشيء إلّا لتلك الوثنية المطلقة في تماثيلها العارية. كأنما كلّ ما يسير بين أوراقها ليس سوى ذلك النحّات الذي ترك صخراته مع صرخاتها ليجبل الوقت منها تحفته تلك؛ تلك التي تراقب وتتمتم وتصمت لسجوده؛ لوجودها؛ للبرد؛ وللعدم أيضًا.
لأن لنا في تلك الذكرى لحناً واحداً، ما كان يجدر به أن يُعزف... حاله كحال كل الأشياء التي تغرق في بئر الندم والتمزيق، خشية أن يعود ما فيها إلى الحياة في أذهان لا تفهمها، وفي عقلي الذي لا يريد سوى نسيانها...
أدركت منذ وقت قريب أن الأمر الوحيد الذي قد يقيني من إغراء الذهاب إلى الأبد ليس سوى الانغماس في الوحدة… ولكنّها من بين كلّ نظيراتها التي عمّدتني كانت الكذبة الأشدّ قتلًا؛ فما من أحد يؤول يومًا إلى وحدة حقيقية خالية من كل شيء. الوحدة ما هي إلّا التّذكير الدّائم بأن السبيل الأوحد إليها يكمن في طريق القبور.
فما الموت في النهاية سوى إنذار بأن الانتصار الأخير للاوجود مهما عظم نقيضه؛ أفلم تبنى الأهرامات فقط كي تدفن فراعنها؟
للمرة الأولى لا تكون برودة كلماتي رادعي بل وقاحة هذا الوقت الذي يتعالى حتّى على المآسي؛ ليدفن كلّ السفن في أفقه، فيكون بذلك أكثر من تأخّر على مواعيده كلّها. أكثر من تفانى بالخضوع للمحتلّ؛ لدرجة تخجل كلّ زعيم عربيّ وكلّ عمامةٍ غير ملثّمة.
المجزرة المتواصلة هي من تقودني، دون موضوع محدد لأكتب عنه، فكل شيء يتصنّع المواجهة أو اتّخاذ المواقف. لذا تعود الكتابة عن اللامعنى، واللامجهول، انتقامًا منها، وفيها؛ منّي... علّ هذا المقال يكون آخر ما يُكتب، وما خلفه رميٌ نهائيٌّ للحياة.
هذا لأن التعاسة ما زالت حكرًا على من امتلك الحقّ. كما أن التعساء الوحيدين الذين أعرفهم وأعترف بهم، هم من يتشبثون بالماضي، بينما يصارعهم شراع سفينة سرقتهم عنوة من أنفسهم. أولئك الذين ما كانت رحلاتهم عصيبة إلّا لأنهم أكثروا الرحال، ولأن الوجود المنحرف عن كلّ عمقٍ مأجور لم يرسُ سوى عندهم وحدهم... هناك، تمامًا عند كلّ مفتاح قفلٍ لا يفتح إلّا بعد أن يهدم.
كثرت موسيقاهم والأوتار، فكيف لي ألّا أضجر من كل نغمة ليست فيها؟ كيف لي ألّا أكبِّل لمرّة واحدًة كلّ القبور عمدًا وتعميدًا لكلّ طفل ما هاب الموت وشكر إلهه لتمكنه من الصّراخ؟
من أين أتوا بتلك الصلابة التّي ترى في أيّ شيء وكلّ شيء نعمةً تصفع منطقًا لا يعي المنطق وبصيرة لا تبصر كلّ مذاود الدم في أحلك أضواء الأعياد؟
غياب المعنى فاضح وأليمٌ جدًّا. فما الفائدة بعد كلّ ما يحدث من الكتابة أو الاستمرار بالحياة؟ لمَ خلقنا مع هذا الكمّ المخجل من الازدواجيّة التّي تجعل القتل خبرًا نتخطّاه ونستهلكه في أوقات الطغاة؟ فنبرد ونأمل مع الهُدَن ونغلي بحرقة بعد استكمال الفتن. كأنّهم قد نالوا منّا إلى ما لا عودة، فأصبحنا نشعر أن الأحداث وإن تسرّبت حقائقها من بين ستائر أكاذيبهم تجرف وتصارع وتلبّد كلّ سماءٍ لا تقيهم ولا تقينا.
فمعاناتنا بأكملها، هي نفسها، وكلّ وما أكتبه قد يرتطم بسرد شبيه، إلّا أنهم فصلوا التعاسة عن بعض البشر، وسلخوا مشاعرهم في ضحكات تسليعهم لأحزانهم ببكاء فاجر على من قَتَل...على من اقترَف الجُرم...على من رَجَم.
ونحن بكينا أيضًا. بكينا، ولم يبقَ شيءٌ لم يبكنا. بكينا على من غادر ومن بقي، على من أصيب ومن ارتقى. وتقيّأنا مع كلّ صباحٍ لغاتهم التّي أفسدت أمانينا. منعوا علينا حتّى الرغبة بحريّتهم، فأصبحنا ما نرى الحريّة سوى في أصالة محاربينا...
هذا كلّه، رغم اختلاف الفكر وشتات العقيدة. إلّا أنّهم محاربون فاقوا كلّ من تبنّى الإنسان في شرعاته طويلًا، وشرعهم ما كان سوى باحترام الأسير، حدّ جعله خليلًا...حدّ إغوائه حتّى بفرط قيمٍ ما عرف المعادي لها سبيلًا...