النهار

حرب السرديات
في بداية الطوفان، رأى الإعلام العربي أن عملية طوفان الأقصى تندرج تحت عنوان "ثأر وانتصار وأمل
A+   A-
الجميع يتّفق على أن الإعلام بات سلاحاً فتّاكاً في الحرب، هذه الحقيقة أثبتتها الحروب المتتالية. ولا يختلف الأمر في الحرب الأخيرة التي تشنّها إسرائيل على غزة. فلم ينحصر الإعلام بوظيفته التقليدية في هذه الحرب، ولم يكن المرآة التي تعكس الوقائع فقط، بل كان النبراس الذي سلّط ضوءه على سرديات عديدة، التي بدورها غرست عقيدة التضحية في جوف المقاومين، وهيّأت نفسية الشّعب، فتبلورت وظيفة جديدة للإعلام ألا وهي خلق القوة التي تأخذ بيد الرأي العام وتفرض عليه توجّهاته. وإذا غصنا في أعماق السرديات التي نقلها كلٌّ من الإعلام الغربي والعربي، نرى أن العالم انقسم إلى معسكرين، معسكر لسرديات وسائل إعلام المقاومة، يقابله معسكر سرديات للإعلام الصهيوني. وإذا قمنا بمشاهدة المشهد من بعيد، نجد أنّنا أمام حرب السرديات.
أولاً: سردية الإعلام العربي
في بداية الطوفان، رأى الإعلام العربي أن عملية طوفان الأقصى تندرج تحت عنوان "ثأر وانتصار وأمل"، ولكن سرعان ما انقلب المشهد من مشهدٍ مليء بالأمل إلى مشهدٍ تغطيه دماء الأطفال والمدنيين. فنقل الإعلام صدمة الإسرائيليين التي أدّت إلى حالة من الجنون الذي تجلّى في القصف الوحشيّ، والتدمير الذي لم يحدث مثله بعد الحرب العالميّة الثانية، وارتكاب المجازر وحرب الإبادة التي لم يشهدها العالم إلّا خلال الإبادة الجماعيّة التي قامت بها الولايات المتّحدة الأميركيّة والتطهير العرقيّ للسكّان الأصليّين لشمال القارّة الأميركيّة من الهنود الأميركيّين أو الهنود الحمر. فدور الإعلام تجلّى في نقل الحقيقة الكاملة عن إجرام العدوّ الإسرائيليّ، وارتكابه المجازر والدّمار أمام شاشات التّلفزة وعبر وسائل التّواصل الإجتماعيّ، والقصف الجنونيّ للمجمّعات السكنيّة، والمستشفيات، والمدارس، ودور العبادة دون أي وازع أو رادع، سوى تصدّي المجاهدين من فصائل المقاومة الفلسطينيّة في الدّاخل الفلسطينيّ، والدّعم المعلن لها من قبل حركات المقاومة من العراق وسوريا مروراً بلبنان وصولاً إلى اليمن، والتي أعطت أهميّة كبرى للإعلام والصّورة من خلال نقل العمليّات على الهواء مباشرة، وإصدار البيانات المكتوبة والمرئيّة والمسموعة. ولن ننسى دور السلطة الخامسة (مواقع التواصل الاجتماعي) والحرب الإلكترونية التي اندلعت من خلالها. فيبدو أن أصحابَ المصالح والمُتصهينين أُصيبوا بصدمةٍ مروِّعة جرّاء رؤيتِهم ردودَ أفعال الشعوب العربيَّة والإسلاميَّة المُتضامنة مع أهلنا في غزَّة، ومدى الفرحة العارمة التي عمَّت أرجاءَ المعمورة، عقب اندلاع طوفان الأقصى، وإعلان ما حقَّقته المقاومة الفلسطينيّة من انتصارات؛ بل مُعجزات، في مُواجهة دولة الاحتلال، وكشفها عن هشاشة وضعف وعورات النّظام الإسرائيليّ، الذي طالما صدَّع رؤوسَنا بقوَّته التي لا تُقهر، واستعداداته التي لا تهزمُ، وقُبّته الحديدية، وسياجه الحدوديّ اللذين يوفّران له الأمن والأمان، ويحولان بينه وبين أصحاب الأرض والحقّ.
هديرُ الأصوات التي تهتفُ باسم الأقصى وفلسطينَ، والدعواتُ التي انهالت من كلِّ حدبٍ وصوبٍ على الأنظمة العربيَّة المتاخمة للأراضي الفلسطينيّة مطالبةً بفتح الحدود، ومنح الشعوب العربيّة الفرصة في النَّيل من عدوٍّ محتلّ مغتصب للأرض، ومدنِّس للمقدّسات، وناهبٍ للثروات، وقاتلٍ للأطفال والنساء، ولّدت حالةً من الفزع والخوف لدى دولة الاحتلال ومُؤيّديها، خشيةَ تصاعد الأمور، وانفلاتها وخروجها عن السيطرة من جانب أُولي الأمر في العالم العربيّ تحديدًا.
ثانياً: سردية الإعلام الغربي
لم يتردّد الإعلام الغربي في وصف ما حصل في 7 تشرين الأول بـ"11 أيلول الإسرائيلي". كما أن الرئيس الأميركي جو بايدن وصف ما حدث بأنه "يُشكّل 15 ضعفاً لما حدث في 11 أيلول". إذا،ً الإعلام الغربيّ في أعمّه الأغلب يظهر انحيازًا مفضوحًا للرواية الإسرائيلية، واصفاً هجوم حماس بالإرهاب. فشاشات الغرب سرعان ما انصبَّت التغطية عندها على العمليَّة العسكرية ضد غزة، أكثر بكثير مما اهتمت بالزلزال العسكري والسياسي الذي خلّفه هجوم كتائب القسام على مستوطنات غِلاف غزة، ثم في وقت لاحق على مدن وبلدات إسرائيلية. وصل الأمر في واحدة من المواد المروّجة على منصات التواصل الاجتماعي لواحدة من القنوات إلى تقديم مادة تتضمن رسالة واضحة ومباشرة بأن عملية حماس قدمت خدمة لنتنياهو وجعلته أقوى في الداخل والخارج، مع جرعة من الإشارة إلى الرعب الذي ينتظر سكان غزة. ولم يكتفِ الإعلام الغربي بهذا، فاستغلّت صور أطفال غزّة لتثير شفقة العالم على أطفال إسرائيليين تم الادّعاء أنهم ذبحوا من دون أي دليل على ذلك.
وبالرغم من تضليل الإعلام الغربي للوقائع منذ النكبة إلى أن الاستطلاع الذي أجراه مركز الأبحاث الأميركي بيو(Pew) في عام 2018 كان صادماً بين الأوساط اليهودية في الولايات المتحدة، فتبيّن أن معظم البالغين اليهود يرون أن الله لم يعطِ أرض إسرائيل للشعب اليهودي (42%). ويشير الاستطلاع إلى أن اليهود الأصغر عمراً أقل ارتباطاً بدولة الاحتلال من نظرائهم الأكبر. والملفت أن كلّ الجهد الذي يقوم به الإعلام الغربي يشير إلى أن بعض الصحف الإسرائيلية ما زالت تنشر مقالات تعبّر عن رأي مخالف للسردية الغربية، حيث كتب الكاتب الإسرائيلي مايكل بريزون في مقال له بصحيفة هآرتس في بدايته "أنا يهودي منفي وفخور.. أنا مواطن عالمي وليس لدي أي ارتباط مع مسقط رأسي الجغرافي.. و"الأرض" بالنسبة لي هي مجرد قاذورات يزرع عليها الطعام ويدفن فيها الناس، وليست لها أدنى ذرة من القداسة ولا تستحق أن تسكب من أجلها نقطة دم واحدة".





الكلمات الدالة

اقرأ في النهار Premium