نظراً لكشفها الخبايا بشكل أساسي، وتطرّقها لملفات الفساد بكافة أشكالها، سواء استغلال المناصب، أو الرشاوى والمحسوبية، أو نهب المال العام، تعد التحقيقات الاستقصائية من أخطر فنون العمل الصحفي وربما أصعبها. ومع ذلك، فرضت نفسها ليكون لها دور أساسي في دائرة الرقابة على التجاوزات التي تستهدف المجتمعات. إن التحقيقات الاستقصائية التي يقوم بها الصحافيون، بإمكانها تفعيل دور الرقابة على الجهات الرسمية، وتدفعها إلى التحرك والضغط على الرأي العام الذي تشكله وسائل الاتصال الجماهيري.
فما القضايا التي يمكن للصحافي الاستقصائي التحقيق فيها؟ وما المشاكل والمخاطر التي يتعرض لها؟
من مهام الصحافة الاستقصائية هي كشف أمور خفيّة للجمهور، أمور إما أخفاها عمداً شخص ذو منصب في السلطة، أو اختفت صدفة خلف رُكام فوضوي من الحقائق والظروف التي أصبح من الصعب فهمها، وعلى سبيل المثال من الفضائح التي تمكنت الصحافة الاستقصائية من كشفها هي فضيحة ووترغيت ففي عمل استقصائي دقيق وطويل، كشف الصحافيان بوب وودوارد وكارل برينشتاين تجسس الرئيس الأميركي السابق ريتشارد نيكسون على منافسه الديمقراطي، حيث لعبت هنا الصحافة الاستقصائية دوراً في الإطاحة بالرئيس الأميركي نيكسون حين قدم استقالته بعد مسار من الجدل الطويل والتحقيقات وجلسات الاستماع.
إن الصحافة الاستقصائية تتجسس على الكواليس بشتى أشكالها من الكواليس السياسية إلى الفنية، الرياضية والثقافية، وهناك العديد من القضايا التي يمكن للصحافة الاستقصائية التحقيق فيها مثل الفساد الحكومي، انتهاكات حقوق الإنسان، البيئة والتلوث، الجرائم المنظمة وسوء الإدارة وغيرها الكثير من القضايا التي يجب كشفها. أثناء الاستقصاء يجب التحلي بالدقة، فكل المعلومات يجب التحقق منها قبل استخدامها، وتعتبر الأدلة الركن الأساسي من أركان التحقيق الصحفي، بل إن جميع الأركان الأخرى وعلى أهميتها، لا ترقى إلى أهمية الأدلة في إضفاء صبغة التحقيق الصحفي على أي عمل إعلامي، والأدلة بهذا المعنى يجب أن تكون أدلة دامغة، مباشرة، وواضحة لا لبس فيها تماماً كما تفعل الشرطة القضائية في محاولتها اكتشاف ملابسات الجريمة.
على المحقق الصحفي أن يأخذ احتياطاته قبل نشر أي دليل أو الخروج باستنتاج مبني على الأدلة التي بحوزته وذلك من خلال استشارة خبير في الشؤون القانونية إذا لم يكن هو ضليع بهذه الأمور، لأن أي نقطة ضعف قانونية في الأدلة أو الاستنتاجات قد تعرض الصحافي لمشاكل عديدة، وتاريخ الصحافة حافل بحالات كهذه، وعلى سبيل المثال ما حصل خلال العام 2006 مع مراسل قناة الجديد فراس حاطوم، عندما دفعه حسّه التحقيقي إلى دخول شقة شاهد عيان في قضية اغتيال الرئيس رفيق الحريري، فبرغم حصول الزميل حاطوم على إذن صاحب الشقة وحارس المبنى، إلا أن دخوله الشقة من نافذتها واحتفاظه ببعض الوثائق التي تعتبر أدلة صحفية، دفع بالقضاء اللبناني إلى توقيفه بتهمة الدخول إلى شقة محرز عليها قضائياً بطريقة غير مشروعة، قبل أن يعود القضاء عن قرار التوقيف ويخلي سبيل حاطوم ورفيقه بعد أشهر من التوقيف الاحتياطي، كان فراس بغنى عنها لو أنه استشار خبيراً قانونياً في أصول المحاكمات الجزائية وقانون العقوبات.
كما أن هناك شكوى عامة عن أن المخبرين الصحفيين يستخدمون تكتيكات الجواميس، عل سبيل المثال عندما تنكر مخبر صحفي من برنامج Prime time live في شبكة تلفزيون "ايه بي سي" في هيئة عامل يقوم بتعبئة اللحوم في سلسلة متاجر كبيرة للبقالة، لكي يكشف الممارسات غير الصحية.
يتعرض الصحافيون عموماً والاستقصائيون خصوصاً لحملات استهداف في مناطق عديدة من العالم ومن جهات مختلفة تشمل الحكومات والعصابات وجماعات النفوذ والتنظيمات المسلحة والأفراد العاديين. ومن أبرز الصحافيين الاستقصائيين الذين كانوا هدفاً للتصفية الجسدية بسبب تحقيقاتهم وكشفهم حقائق يفترض انها سرية أولاً، المالطية دافني كاروانا غاليزيا والتي قادت تحقيق الفساد في فضيحة "وثائق بنما"، وكشفت قضايا فساد في بلادها والتي قتلت بانفجار سيارة في العاصمة فاليتا في 16 تشرين الأول 2017. ثانياً، الصحافي الأوكراني بافيل شيرميت والذي اغتيل بانفجار سيارة وسط العاصمة كييف بتاريخ 20 تموز 2016 بعد كشفه قضايا فساد لشخصيات عدة في أوكرانيا وروسيا البيضاء وروسيا. كما اغتيل اليوناني سوكراتيس جيولياس بإطلاق نار في العاصمة أثينا بتاريخ 19 تموز 2010 بعدما أجرى تحقيقات صحفية حول قضايا فساد في المجال التجاري. بالإضافة إلى الأميركي تشونشي بيلي الذي اكتشف أن سلسلة مطاعم ومخابز شهيرة تخفي وراء عملها التجاري جرائم عدة فتمت تصفيته بإطلاق نار في أوكلاند بولاية كاليفورنيا في 2 آب 2007. وغيرهم المزيد من الصحافيين الذين اغتيلوا بسبب سيرهم على درب الحقيقة.
خلاصة القول إن الصحافة الاستقصائية تحتاج إلى المزيد من المهارة والتدريب الخاص للصحافيين كي تؤتي ثمارها، وقبل كل ذلك تحتاج إلى بيئة قانونية وسياسية وأمنية حاضنة ومشجعة للعمل الاستقصائي، بهدف المساعدة في تصويب الأوضاع وتجاوز الأخطاء.
ويجب التأكيد أن وظيفة الصحافة الاستقصائية هي "تصعيب مهمة من يحكمون عن طريق الحذر من كيفية ممارستهم السلطة التي يقبضون عليها باسم الشعب" كما قال الصحافي البريطاني الراحل جريمي ريد.
فكيف يمكن للصحافة الاستقصائية أن تساهم في تعزيز الشفافية ومكافحة الفساد في المجتمع؟