بلغ الصراع في فلسطين ذروته بكل الأبعاد والمعاني السياسية والعقائدية والتاريخية والقومية، وما أدل على ذلك سوى السياق التصاعدي لتطور الأحداث والمعارك والحروب وطبيعتها الوجودية وانكشاف الأهداف الصهيونية الإجلائية والإحلالية والاستئصالية. إن حجم العدوان على قطاع غزة ومشهد المجازر والجرائم والتدمير الممنهج بحق أبناء الشعب الفلسطيني وكل مقومات حياتهم هناك، ما هو إلا تجسيد لحرب الإبادة الجماعية والتطهير العرقي بهدف اقتلاعهم وطردهم وتهجيرهم من أرضهم. أدرك العدو أن عملية طوفان الأقصى في السابع من تشرين الأول (أكتوبر) بأنها ليست مجرد عملية فدائية من العيار الثقيل فقط، بقدر ما هي إنذار خطير لما يتهدد وجود الكيان الصهيوني ومستقبله. جاءت هذه العملية في أوج تحليلات قادة العدو وخبرائه لحجم القلق الوجودي الذي يلاحقهم ويطاردهم لدرجة بات هاجسا يعانون منه، وفي سياق البحث عن حلول جذرية لأزمتهم هذه، عادوا لتبني أو استعادة أحد مشاريعهم التصفوية القديمة الجديدة كعملية إستباقية وتصفوية، عبر عنها وزير المالية الصهيوني سموترتش بخطة "الحسم" القائمة على ضم الأراضي وطرد الفلسطينيين منها، ولو تطلب ذلك قتلهم أو إبادتهم على قاعدة "الغاية تبرر الوسيلة"، وهكذا تضاعفت الهجمات والاقتحامات والتوغلات وأعمال القتل والإعتقال واستباحة البيوت والأحياء والمساجد والمشافي والمؤسسات العامة والخاصة في مختلف المدن والقرى والمخيمات، وكذلك التعدي على خصوصيات الناس الحياتية والشخصية، وترافق ذلك مع هجمات متكررة ومشاريع متعددة لتهويد القدس وتغيير معالمها التاريخية الحضارية والديمغرافية والدينية، وأيضا مصادرة المزيد من الأراضي وتسريع بناء المستوطنات في الضفة الغربية وتوسيع ما هو قائم منها، وقوننة تلك الغير شرعية والغير مرخصة وفقا لاعتراضات سابقة قانونية وقضائية.وفي المقابل بلغ تعداد الفلسطينيين في فلسطين التاريخية مع نهاية عام 2023 سبعة ملايين ومئتين وخمسين ألفاً، وبهذه النتيجة يكون عددهم قد فاق عدد اليهود المستجلبين إليها والذي بلغ عددهم سبعة ملايين ومئة ألف، ضمنهم مئات الآلاف من مزدوجي الجنسية. هذا بالنسبة للكيان الصهيوني بحد ذاته خطر وجودي جدي يجعلهم يفكرون دائماً ومنذ عشرات السنين بكيفية إزالته عبر مؤامرات ومشاريع سياسية وتصفوية سرية وعلنية لا تنتهي، بدءاً بتوطين اللاجئين الفلسطينيين في الخارج ورفض ومنع عودتهم مروراً بمحاولات وخطط وبرامج لا حد لها لأسرلة الفلسطينيين الذين تبقوا في الأراضي المحتلة عام 1948، وبممارسة كل أشكال الاضطهاد القومي ضدهم عبر سياسة التمييز العنصري بهدف إخضاعهم أو دفعهم للهجرة إلى الخارج وما "قانون القومية" الذي يعتبر الكيان الصهيوني "دولة يهودية" لكل يهود العالم إلا في هذا السياق.استمرارا لاستراتيجية استهداف الفلسطينيين في القدس والضفة وقطاع غزة، شرع العدو بتنفيذ مخططات تهجيرهم إلى الأردن ومصر، عبر عمليات التنكيل والقتل والاعتقال والحصار، وخنقهم اقتصادياً وتيئيسهم واذلالهم. إذا الصهاينة عازمون ومصممون على تحقيق أهدافهم ولو تطلب ذلك عدة حروب إبادة.يشعر الصهاينة بقدر ما هي أعداد الفلسطينيين مخيفة ومرعبة لهم وتهدد مستقبلهم، إلا أن ذلك ومع تنامي حركة المقاومة في فلسطين والمنطقة يجعل الأمر أكثر خطورة، ويستوجب خطوات عملية وسريعة لاجتثاثهم واقتلاعهم وطردهم من أرضهم، فكانت خطة "الحسم"، وما أن بدأ العدوان الأخير على قطاع غزة إلا وكان مشروع التهجير لأبنائه من أولى الأهداف الصهيونية وبموافقة أمريكية.هذا هو السر وهذه هي العقيدة التي تقف وراء رفض إقامة أي كيان فلسطيني يتمتع بأي نوع من أنواع السيادة أو الاستقلال، ورفض إقامة "الدولة الفلسطينية"، ورفض حتى مشروع "حل الدولتين"، ورفض فكرة "الاستفتاء" على تحديد مستقبل فلسطين، أو حتى فكرة "الدولة الواحدة" "ثنائية القومية"، بغض النظر عن وجهة نظر الشعب الفلسطيني أو أي من فصائله وقواه الوطنية من هذه الأطروحات سواء كانت تتوافق مع حقوقه التاريخية والوطنية أو مع قرارات الشرعية الدولية أم لا.المهم بالنسبة للكيان الصهيوني التخلص من أكبر عدد ممكن من الفلسطينيين وإخضاع القليل مما سيتبقى منهم للإدارة المدنية والسيطرة الأمنية الصهيونية.إذاً الأهداف الصهيونية في غاية الوضوح، وتنال تأييد ودعم أمريكا والغرب الامبريالي والمتواطئين من الرجعيين العرب.فماذا تبقى للفلسطينيين من خيارات؟؟ هذا سؤال برسم القيادة الرسمية الفلسطينية وقادة فصائل الثورة الفلسطينية، وبرسم منظمة التحرير الفلسطينية الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني أولاً وقبل كل شيء وبغض النظر عن واقعها الحرج والمرتبك اليوم.لقد قال الشعب الفلسطيني كلمته بأنه ثابت وصامد في أرضه، وأكد اللاجئون الفلسطينيون تمسكهم بحقهم بالعودة إلى وطنهم وأرضهم وكل مدنهم وقراهم وديارهم التي طردوا وهجروا منها قسراً رافضين بذلك مشاريع التوطين أو الوطن البديل. لقد اختارت الكثير من الفصائل الفلسطينية طريق المقاومة بكل أشكالها المسلحة والشعبية كخيار استراتيجي لتحقيق الأهداف الوطنية للشعب المتمثلة بالتحرير والعودة. وها هي تقاتل وتقاوم وتصمد وتتحدى وتتنامى قوتها وقدراتها يوماً بعد يوم وتزعزع أركان العدو وتخلخل كيانه العنصري والفاشي.وما نشهده اليوم في قطاع غزة والضفة والقدس وعلى الحدود في لبنان وسورية وما تشكله المقاومة في اليمن والعراق ولبنان من مشاركة وإسناد ودعم، ما هو إلا انطلاقة جديدة للمشروع الوطني الفلسطيني وتأكيد للثوابت الاستراتيجية والحق المطلق في فلسطين كل فلسطين.مثل العدو الصهيوني سابقا _ وربما لازال بحدود معينة _ الركيزة الاستراتيجية الحصينة لقوى الغرب الإمبريالي وخادما لمصالحها عبر دوره الوظيفي في المنطقة، لكنه بات اليوم بحالة من الوهن والضعف والتفكك، وبحاجة إلى دعم إسناد وحماية ولمن يدفع الخطر عنه.أمام هذا المشهد ما يحتاج له الشعب الفلسطيني اليوم هو التحديد الواضح لموقف وموقع وخيار منظمة التحرير الفلسطينية من هذا الصراع الذي بلغ ذروته، وهنا لم يعد ينفع التردد أو المواقف الوسط أو تلك وجهات النظر الصفراء أو الرمادية، انتهى الأمر، وكفى، ولا داعي للأوهام والرهانات مجددا على دور ما للمجتمع الدولي لحل القضية الفلسطينية، هناك أكثر من ألف قرار للشرعية الدولية بخصوص فلسطين والصراع العربي الصهيوني، لم يطبق أو ينفذ أي واحد منها، سبق وطرحت عشرات المبادرات السياسية منذ ما بعد حرب تشرين 1973 وحتى إتفاقية أوسلو وثم "خارطة الطريق" و"مبادرة السلام العربية" وغيرها وبالرغم من تنكرها للحقوق الفلسطينية التاريخية وانتقاصها للحقوق الوطنية التي وردت في البرنامج السياسي للمنظمة إلا أن العدو كان لها بالمرصاد ورفضها وتصدى لها متنكراً لأي حق من الحقوق الفلسطينية. إذاً هل تقلع منظمة التحريرعن رهاناتها وخياراتها بالتسوية السياسية مع العدو؟؟ وهل قيادة المنظمة مستعدة للتضحية ودفع كلفة العدول عن هذه الخيارات؟؟ يباد الشعب الفلسطيني ويذبح كل يوم ليس في قطاع غزة فقط بل وفي الضفة وعلى بعد أمتار من مقرات الرئاسة والمنظمة والسلطة رغم كل الاتفاقات وكل أشكال وحجم التعاون والتنسيق مع العدو. هذا يفرض على هذه القيادة حسم الخيار والموقف أولاً فهو الذي يشكل المدخل الحقيقي للوحدة الوطنية الفلسطينية والأمر لا يتطلب الكثير من التضحية إلا ببعض المصالح والامتيازات وهي لا تساوي شيء أمام تضحيات الشعب الفلسطيني وما يتعرض له من جرائم ومجازر وإبادة. ومن لازال يراهن على أمريكا فهو كمن "يستجير من الرمضاء بالنار".إذاً اختار قادة الكيان الصهيوني خطة " الحسم" كاستراتيجية استباقية للدفاع عن أنفسهم وعن كيانهم اللقيط، فما هي خطة الحسم الاستراتيجية الفلسطينية؟ وبنفس الوقت ما هي المهام الراهنة التي يتوجب التصدي لها فلسطينياً؟ استنادا لصمود وثبات الشعب والمقاومة والبناء على تحركات الشعوب العربية وشعوب العالم وتأييد الكثير من الدول التي تقف إلى جانب نضال شعبنا وحقوقه، وخاصة تلك التي تقدم الدعم بكل أشكاله لنصرة الشعب والقضية والمقاومة الفلسطينية، يجب إعادة الاعتبار للمشروع الوطني الفلسطينية وحسم الخيار وبلورة خطة وبرنامج كفاحي مقاوم.إن الجهود التي بذلتها وتبذلها الفصائل الفلسطينية عبر اجتماعات متعددة في بيروت أو دمشق وعبر وسائل الاتصال تهدف إلى توحيد كل الجهود والطاقات لمواجهة تحديات هذه المرحلة وأخطارها، والإسراع في تشكيل قيادة طوارئ أو قيادة وطنية موحدة بحيث تشمل الكل الوطني بما فيها حركة فتح والمستوى الرسمي الفلسطيني على قاعدة رؤية وطنية موحدة مستمدة من اتفاقات وطنية سابقة، ومن متطلبات المرحلة الراهنة، وما تفرضه من مهام عاجلة في سياق إدارة المعركة ببعديها السياسي والميداني، ومن أولى هذه المهام ؛ وقف العدوان على غزة وكذلك وقف الاقتحامات في الضفة والقدس، وانسحاب الجيش الصهيوني من قطاع غزة وتحرير الأسرى الفلسطينيين عبر عملية تبادل شاملة على قاعدة "الكل مقابل الكل" والتصدي لأي شكل من أشكال الوصاية على قطاع غزة باعتبار مستقبل القطاع شأن فلسطيني داخلي يقرر به الفلسطينيون فقط ولا أحد غيرهم.إن طبيعة التعاطي ومدى جدية قيادة المنظمة وحركة فتح مع هذه الجهود يحدد مدى أهمية الدعوة لاجتماع وطني موسع ومقرر، أما دون ذلك سيبقى الوضع الفلسطيني الداخلي على حاله من التعقيد والإرباك ولا يرقى لمستوى ما يعانيه الشعب ولا لحجم التضحيات التي يقدمها في سبيل وطنه وكرامته ومستقبله.لقد مر ما يقارب المئة يوم على العدوان الصهيوني وقد يستمر لأسابيع وأشهر، فهو ليس مجرد عملا انتقاميا أو محاولة لاسترداد الثقة بقدر ما هو استحضار لمخططات متكاملة لتصفية القضية الفلسطينية وإبادة وتهجير الفلسطينيين من أرضهم.لقد قاربت أعداد الضحايا المئة ألفاً من الشهداء والجرحى والمفقودين، وتم تدمير أكثر من 70 في المئة من قطاع غزة شملت كل مقومات الحياة، وتضاعفت أعداد الأسرى والمعتقلين ثلاث مرات عما كانت عليه قبل العدوان وخاصة في الضفة والقدس وغزة وهم يتعرضون لأسوأ أنواع التعذيب والتنكيل والتجويع والبرد والإذلال. الوقت من دم ودموع وعذاب، رغم كل مشاهد الثبات والصمود، فهل تستجيب القيادات الفلسطينية لسؤال التحدي؟؟ "نكون أو لا نكون".