النهار

ستراتيس باسخاليس شاعرٌ انتقاليٌّ بين الأزمان والحالات الذهنيّة
المصدر: النهار - نسرين بلوط
ستراتيس باسخاليس شاعرٌ انتقاليٌّ بين الأزمان والحالات الذهنيّة
بين أدب العصور القديمة في اليونان، والذي تمحور حول الملاحم والأساطير المؤرّخة وقد أسّسه باسخيلوس
A+   A-
بين أدب العصور القديمة في اليونان، والذي تمحور حول الملاحم والأساطير المؤرّخة وقد أسّسه باسخيلوس، ومضى به إلى الأدب الكلاسيكي الذي ركّز على القضايا السامية التي تنفحُ على مزمار التألّه والتمجيد ثمّ تطوّر إلى الأدب البيزنطي الذي تأثّر بالدين والكنيسة، وبين الأدب اليوناني الحديث الذي بات يجسّد روح العصر وطريقة التعبير السلسة عمّا تحتوي من تغيّرات وانقلابات، أشواطٌ زاخرةٌ بالمعارف والتآلف الضمنيّ في الإدراك وسرعة البديهة، حيث تمتدّ كالأمواج التي تنحسر عن شواطئ سرديّة تحفل بالبحّارة المتمرّسين وصيّادي الحدث والمغزى.
وقد جازف الشاعر اليوناني ستراتيس باسخاليس بدمج هذا التدرّج الانسيابي في العصور ليمزجَ بين تقنيّة الشعر الحديث الخاطف وإظهار الجرح الموارب الذي يندسَ في مفرداته وتعابيره، والرؤيا الشاملة القديمة في الشعر اليوناني القديم، والتي كانت تفصّل وتهلّل للمجازات والأساطير وتبتر الشرّ بمبرد الفضيلة. وقد نجح إلى حدّ كبير في اختراق المسافة الفاصلة بين الأزمان، وخلق مشهدٍ جديد يفصل بين الحقيقة والخيال دون أن يكسرَ قواعد الشعر المتين بل بالعكس، تجري العبارات على قلمه بروقاً وعقيقاً لمّاعاً وضيئاً.
في قصيدته "أساطير" كتب باسخاليس: "ذهبيٌّ وأحمر، فوق القمم السوداء، هذا الغروب الذي نضج. أنفاسٌ باردة، أشجار أو أطياف، في البرد القارس/ شحرور ذو منقار حادّ، يبحث في الأعشاب، والغابةُ تصير أكثر فأكثر، مغارةً تعمُق/ نحن أبطال القصّة، جئنا حتّى ها هُنا منغمسين في كابوس لا يقظة منه. أين القلعة والوحش؟ / مرَّ هواءٌ، مرّ، وتاه في الجبال، بعد ذلك بِيُسرٍ، حلّ الليل".
إنّه انكفاءٌ ذاتيٌّ نحو عناصر الطبيعة التي تتبارى في حالات التلبّس النفسي لقلمه، فيستخدم عبارات "البرد والأشجار والكابوس المغارة والكابوس والقلعة والوحش والليل الحالك" كحالةٍ انعكاسيّة لما تجيشُ به مخيّلته وهزيم الرعود في نفسه، وكذلك تشفّ حروفه عن احتضارٍ مريب يجهر به بطريقةٍ تعبيريّة مباشرة، دون أن تفحّ من ثناياها براثن الشهوات والسقطات، بل يكاد يصبح انساناً اسطوريّاً ينتمي إلى الميتافيزقيا الغيبيّة والتي ترى الغروب يرشحُ بألوانه المخضّبة بين اللون الذهبي الذي يوحي بالشحوب والأحمر الصارخ الذي يشبه الجرحَ العميقَ للآلام المستعصية.
ثمّ نراه في قصيدته "نسيم الصباح" يضجّ بالشوق اللافح والمشاعر الجيّاشة حيث كتب: "يخطّ القلمُ على الورقة البيضاء، جُمَلاً زرقاء، زرقاء غامقة/ وبينما أكتب منحنياً، مستنداً إلى الطاولة، والكلمات تتكثّف - بحراً أزرق داكناً - أشعر الآن بأنّني أنحني على شفير مركب، أحدّق في فتيات قاسيات الجَمال، يُعشّشن على الصخور، يلتطمن على الموج، يَزلِلن على الأحجار الخضراء، يَغطسن في المياه، وينطفئن كفضّة ذائبة، صباحاً، وهُنّ يقتربن من جُزر هاجعة، وسط ارتعاشات البحر في قلب آب".
هنا، يحترف باسخاليس الأسلوب المتمرّس في التعبير الخاطف، فيسردُ الشعرَ بومضٍ سريع، ويصف الحوريّات على صخرٍ ينتصب في بحرٍ هادئٍ ويحتضن أطيافهن، يشبه توصيفه شدو الطير في خمائل الغبطة، ويدلّل في تعبيره "باستناده إلى شفير مركب" على الأمل الذي يصبو إليه ليعينه على مشقّة العبور من حالةٍ ذهنيّة إلى أخرى، ويستخدم عبارات الأمل والبهجة مثل: "فضة ذائبة، صباحاً، ارتعاشات البحر، قلب آب، الأحجار الخضراء، الورقة البيضاء، جملا زرقاء"، وهو باتّصاله الوثيق بالطبيعة والبحر، يشاطر الآخر آماله وانبهاره، ويذهب إلى تجنيد الأسطورة في الأدب اليوناني القديم وتجديدها من خلال أسلوبٍ حديث، ويقدّم معارف تصل بكلّ منظور وغير منظور، ويعتصمُ بالخيال الجميل الذي يعين ذاكرة الانسان على استعادة لحظات هدوئه وطمأنينته. فكلمة "بحر" موسيقى بحدّ ذاتها لأنّها تكشف عوالم من البهاء والسحر، وتهتك حجب الظلام واليأس، وتمدّ الإحساس الانسانيّ بنورٍ سرمدي ليتخيّل الفتنةَ واللون الأزرق وصوت الموج وارتطامه بالرمال وإيقاع الهدوء الحالم.
لا يزال الشاعر ستراتيس باسخاليس يحالف النور ويتعشّقه، حتّى لو تخلّلت بعض قصائده نبرة الحزن، ولكنّه يتفادى كلّ الألفاظ التي تتستّر بالظلام، مستعيناً بطريق بصيرته وتأمّلاته الحيّة، وكأنّه يستفزّ مخيّلة القارئ نحو صورٍ أكثر إشراقاً، مصرّاً على المغامرة التي تستحثّ كيانه وتهزّ وجدانه، متّكئاً على عصا البصيرة الشاملة، ومستخدماً قوى العقل والعاطفة والوجدان والذوبان في عناصر الطبيعة وخلفيّاتها، دون إقفار وجه الشعر من صفاته الأهم، وهي الاختصار والابتكار والسموّ نحو عوالم التفكّر، ليكون من الشعراء المجدّدين والمكمّلين لمن سبقوه، ويصوغ شعره بلهجة الكاهن المتعبّد للطبيعة الخلّابة.


الكلمات الدالة

اقرأ في النهار Premium