النهار

الشيخوخة
المصدر: النهار - الاب شربلا شلالا – أستاذ جامعي
الشيخوخة
الشيخوخة هي من القضايا الملحّة التي على العائلة البشريّة أن تواجهها في هذه المرحلة للتأكيد على أنّ هناك عهداً متيناً بين كلّ مكوّناته
A+   A-
الشيخوخة هي من القضايا الملحّة التي على العائلة البشريّة أن تواجهها في هذه المرحلة للتأكيد على أنّ هناك عهداً متيناً بين كلّ مكوّناتها: الأطفال والشبان والشابات والبالغين وكبار السن. للأسف، لا نزال نعتقد بأنّ مرحلة الشباب تمثّل القوة والاستمراريّة والنضارة، بينما تمثّل مرحلة الشيخوخة الهشاشة والتدهور والإعاقة. ولكن هل تمثّل مرحلة الشباب فعليّاً المعنى الكامل للحياة؟ هل تُعتبر الشيخوخة فارغة فعليّاً من أيّ معنًى؟ لا شكّ في أنّ مرحلة الشباب رائعة وجميلة لكنّها ليست أبديّة كما هي حال مرحلة الشيخوخة.
هل يجب على كبار السن أن يعتذروا من المجتمع عن رغبتهم في الحياة، أم عليه أن يكرّمهم على العطايا التي يحملونها إليه؟ هل يجب أن ينظر إليهم على أنّهم غير قادرين على تقديم أيّ شيء له، أم عليه أن يكتشف كلّ المعاني التي استنتجوها خلال خبرتهم الحياتيّة؟
مرحلة الشيخوخة هي جزء من حياة الإنسان تمتدّ إلى ثلث حياته. لا شك في أنّ هناك خططاً لمساعدة كبار السن لعيش هذه المرحلة من عمرهم. ولكن للأسف لا يوجد فعليّاً مشاريع حياة تليق بهم. هناك فراغ في الفكر والخيال والإبداع لمواكبة هذه المرحلة المهمّة من حياة الإنسان.
من الضروري أن نجدّد هذا العهد بين الأجيال، والذي يربط الإنسان بكلّ مراحل حياته. عندما يقاوم كبار السنّ أحلامهم ويدفنونها، لا يعود للأطفال والشبان والشابات القدرة على رؤية الأشياء التي عليهم القيام بها .فإذا لم يسائلوا أحلام كبار السنّ، سيتعبون في عيش حاضرهم وتحمّل مسؤوليّة مستقبلهم. إذا انغلق كبار السنّ في كآبتهم فسيلتفّ الأطفال والشبان والشابات أكثر على هواتفهم الذكيّة، وسيشعرون بأنّ الشاشة دائماً مضاءة في حين أنّ حياتهم ستنطفىء تدريجيّاً.
يمكن لحكمة الشيخوخة التي ترافق كبار السنّ في مسيرتهم الطويلة أن تُعاش كتقدمة لمعنى الحياة، لا أن تُستهلك كخمول للبقاء على قيد الحياة. فالشيخوخة موجّهة إلى الانغلاق على نفسها في اكتئاب يسلب الجميع حبّ الحياة إن لم تُعَد إلى قيمتها الحقيقيّة.
تتمتّع الشيخوخة بحواسّ روحيّة كبيرة، ويجب عدم تجاهلها. عندما نفقد عادة حاسّة اللّمس أو الذوق نلاحظ على الفور، ولكنّنا لا نلاحظ دائماً عندما نفقد الحواس الروحيّة. لا تتعلّق هذه الحواس بالتفكير باللّه أو بدين معيّن فقط، بل بالتعاطف والرأفة والنّدم والأمانة والتّفاني والحنان والشّرف والمسؤوليّة الشخصيّة والشعور مع الآخر والتألّم معه. بينما نركّز في أيامنا على حواسّ المتعة السريعة والفوز السريع والوصول السريع إلى مراكز اجتماعيّة ومهنيّة، تطفىء الحواس الروحيّة كلّ حسد، وتكسر كلّ منافسة وصراع بين الأجيال. لذا يجب تفعيل هذه الحواسّ عند كبار السنّ من خلال ملتقى الأجيال، لأنّنا بحاجة إلى نضجهم وحكمتهم لينقلوا إلينا إرث خبرتهم الطويلة وليعزّزوا فينا الرجاء بالحياة.
الشيخوخة عطيّةٌ ثمينة للأجيال الصاعدة. فالإصغاء الشخصيّ والمباشر لقصّة كبار السنّ المعاشة بكلّ تقلّباتها أمر ضروريّ لأجيالنا. يمكننا، ولا شك، الاطّلاع على حياتهم بطرق متعدّدة، ولكن اللّقاء الشخصيّ معهم مهمّ. هذا التقليد في نقل الخبرات نفتقده في أيّامنا. فالرواية المباشرة من شخص لآخر تتحلّى بأساليب تواصل لا يُمكن لأيّ أسلوب آخر أن يحلّ محلّها. إنّ نقل اختبار كبار السنّ بحاجة إلى شغف ليساعد المجتمع على الاستمرار في الأمانة للوعد، والمثابرة بالتفاني، والرأفة لملاقاة القلوب المجروحة والكئيبة. إنّ قصص الحياة يمكن تحويلها إلى شهادة صادقة، تُظهر تقلّبات حياة كبار السنّ، أوقات فرحهم وأوقات حزنهم، أوقات ضعفهم وهشاشتهم وأوقات قوّتهم. هذه هي عطيّة الذكرى التي ينقلها كبار السنّ ويمرّرونها من جيل إلى جيل. إنّها شهادة تساعد الأجيال على تذكّر عطايا الحياة الكثيرة، معانيها الجميلة وصعوباتها اليوميّة وتعلّمهم الإصغاء إلى مدرسة الحياة.
الكلمات الدالة

اقرأ في النهار Premium