النهار

خواطر شاب في العهد... يوم قال لنا الرئيس: "يلّي مش عاجبو يهاجر"
فؤاد بو غادر
المصدر: "النهار"
خواطر شاب في العهد... يوم قال لنا الرئيس: "يلّي مش عاجبو يهاجر"
من مشاهد الشباب المنتفضين في تشرين 2019.
A+   A-

 

كنت في الرابعة عشر من عمري حين وصل العماد ميشال عون إلى قصر بعبدا. لا أذكر الكثير من ذلك اليوم، وأكثر ما اهتممت به في تلك الفترة هو تعطيلنا المدارس احتفالاً بوصول "فخامة الرئيس الجديد" بعد أكثر من سنتين من الفراغ. حينها، لم أعرف شيئاً عن زواريب السياسة وماذا تعني الولاية الرئاسية وما قد ينتظرنا خلالها. اليوم، مرّت ستّ سنوات على 31 تشرين الأول من العام 2016، وأنا في حيرة من عدد الأحداث التي تصاعدت وأضعفتنا كلبنانيين، وأتعبتني كشاب في هذا البلد. 

عبارتا "الرئيس القوي" و"بيّ الكل" اللتان تردّدتا في تلك الفترة، استمالت عاطفتي لأتساءل عن الرئيس. "من هو ميشال عون؟ هل سيستطيع أن ينتشل البلاد من أزماتها آنذاك؟". في عهد الرئيس عون، خبرنا أحداثاً أضعفتنا أحياناً ودمّرتنا في أخرى. خلال السنوات الأخيرة اختلف أسلوب حياتي اليومي وتبدّلت أحلامي التي وددت ان أعيشها في فترة شبابي. مرحلة الشباب "الوردية" التي يحلم فيها كل طفل، لم أعشها أنا وأبناء جيلي، والمسؤوليات التي حملناها بدّلت أولوياتنا التي باتت تقتصر على النجاة بأقلّ الخسائر.

تفجير الرابع من آب هو الأكثر رسوخاً في مخيلتي خلال العهد، وستبقى كذلك في أيّ عهد قادم. الرئيس "كان يعلم"، وأهالي الضحايا لم يصلوا لأيّ "طرف خيط" يشفي غليلهم بعد أكثر من سنتين أمضاها هؤلاء في الشارع. مباني الجميزة ومار مخايل المدمرة التي عاينتها بعد الانفجار، كفيلة بـ"تروما" أبدية يتحمّل مسؤولون كثر ذنباً فيها. يرحل الرئيس وترحل معه "الخبصة" القضائية التي تلفّ ملفّ التفجير تضعنا أمام الشكّ في الوصول إلى إجابة: "من فجّرنا ومن فجّر بيروت التي نحب؟".

عشت وعشنا في السنوات الماضية على تطبيقات الدولار مجهولة المصدر التي باتت تتحكم بربطة الخبز وصفيحة البنزين والدواء الذي نشتري. الطوابير أمام الصرافين، والناس التي "انخربت بيوتها" بسبب ارتفاع الدولار مرة وانخفاضه مرة أخرى، ستسجّل في عهد "الرئيس القوي". أكثر من نصف السكان باتوا تحت خط الفقر، ومشاهد اللبنانيين الغاطسين في حاويات النفايات لإسكات جوعهم باتت صورة يومية لا تتطلب حتى شفقة من يشاهدها. كوارث متلاحقة فجّرها سقوط القناع عن منظومة الفساد وتخبّطها من دون إدارة سياسية للخروج من النفق في هذا العهد. 

"اللي مش عاجبوا، يهاجر"، قالها الرئيس يوماً في حديث تلفزيوني كردة فعل على سؤال ماذا تقول للبنانيين الرافضين الواقع الحالي. وافق أكثر من 425 ألف لبناني على طرح عون، وبات الذهاب إلى المطار لتوديع الأصدقاء والأقارب منتظراً بشكل اعتيادي. هم سافروا، وكلٌّ منا في انتظار أقرب فرصة للحاق بهم. لبنان يضيق بنا وانحصار الفرص أجبرنا على قبول أيّ مدخول في الخارج، فالمهمّ أن نهرب من جهنّم بشّرنا بها عون في أطلالة ثانية.

في 14 تشرين الأول 2021، عشت الحرب الأهلية التي سمعت قصصها على لسان أهلي وكبار السنّ. كنت في طريق الجديدة خلال "الميني حرب أهلية" التي شهدتها مستديرة الطيونة. سمعت صوت القصف وتابعت الأخبار التي بدت كابوساً لا يمكن تصديقه. أتذكر اتصال أمي آنذاك، "بسرعة رجاع على البيت، ما منعرف شو ممكن يصير". ركضت نحو الباص الذي حوى أكثر من 50 شخصاً ولاحظت القلق في أعين الناس الذين قاربوا المشهد بسيناريو الـ1975. تجلّى مشهد التفلّت الأمني في ذلك اليوم والعودة إلى منازلنا سالمين أصبح إنجازاً ليس عابرًا.

 

"حركة 17 تشرين كانت موجهة ضدي وليس ضد الحكومة لأنها استمرت بعد استقالتها"، هو أبرز ما قاله الرئيس في إطلالته التلفزيونية أمس. لم يرَ عون في تحركاتنا حلماً بالعيش في بلد تتوافر فيه أبسط حقوق شعبه، بل هجوماً على عهد، "إنجازه الأكبر" ترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل. لا نعلم ماذا سيحمل هذا الترسيم من فائدة علينا وإن كان اللبنانيون سيلمسون أيّ تحسين في ظروفهم الحالية. عون والأمين العام لـ"حزب الله" السيّد حسن نصرالله وغيرهما يعوّلون على هذا الترسيم لتغطية تقاعس سنوات ماضية.

"بيّ اللبنانيين" بات على بُعد ساعات معدودة لمغادرته القصر الجمهوري، وسط عدّادات حضّرها لبنانيّون كُثُر. عشت ضياعاً في هذه المرحلة وعلّقت أمالاً تحولت إلى إحباطات متراكمة، فتبدلت جلساتي مع الأصدقاء إلى "ما تشكيلي ببكيلك". الفارق الوحيد الذي لامسته في نفسي هو الشغف الذي تولّد في داخلي للبحث عن دهاليز هذا العهد. فخامة الرئيس، أنا الشاب الذي عاش في هذا العهد، بحثت ولم أجد ما أشكرك عليه. لا حقيقة في عيون الشباب سوى توقهم الى الهجرة التي رحبت بها. 

 

 

الكلمات الدالة

اقرأ في النهار Premium