سالي حمود
منذ عامين، في مثل هذا اليوم كتبت منشوراً عن "ثورة ١٧ تشرين"، أنه لو مهما كانت إنجازاتها، كثرت أم قلّت، فقد خلقت نهجاً فكرياً جديداً يعاصر الانحطاط الذي تدهورنا نحوه منذ عقود، بعد عصر تربّعت فيه بيروت وحزامها المجاور، من الساحل الى الجبل والشمال وجبل عامل، على عرش الثقافة والانفتاح في الشرق الأوسط والعالم العربي.
كتبت يومها إذا أمكن للأكاديمية أن يكون لها، وبعد مرور سنوات، دورٌ في تحقيق التغيير الاجتماعي. وهو أمر تطمح إليه طبقات عدة في المجتمع. وتساءلت إذا ما كان فعلًا للأكاديمية نيّة في التغيير، أم أنها ستتسابق بين بعضها، نحو الفرص التي قد تجعل منها "مؤثّرة" في السياسة وما فيها من أبعاد.
اليوم، تتكاثر محاولات ضرب الجامعة اللبنانية وتشتيت أهلها بين المهجر والدكاكين الجامعية،بعد إفراغ قاعاتها والمهاجع السكنية، و البطالة التعليمية فور إقفال الكليات والمعاهد التطبيقية، والبطالة التقنية عقب تدهور السياسات التعليمية.
لست متفائلة حول مستقبل هذا الصرح التعليمي الذي فتح لي شخصياً بابه نحو العلم والتعليم، ومنه انطلقت وحاولت وفشلت ووصلت ولا زلت أحاول. ولكني بعد حديث عميق مع زميلي في الجامعة الأميركية بتت أؤمن أنّ المبادرات الفردية في هذا الوطن هي ما تبقّى من قدرته على إعادة تدوير فتاته وحطامه، ولعلّه يحولها إلى قدر أحلى.
فقد عدت إلى لبنان بعد غياب لم يدم طويلاً، وجالست في يوم خريفي، زميلي الدؤوب في مكتبه المطلّ على ساحل بيروت الساحر، وتبادلنا الأحاديث حول الطلاب والأكاديميا والذكاء الاصطناعي والإعلام و"الميتافيرس".
استمعت إليه بعناية، يقنعني بالعودة للاستقرار هنا في وقت يحتاج فيه الوطن إلى مكافحة هجرة الأدمغة والشباب، واستمعت إليه بشغف وهو يخبرني عن المبادرات التي قام بها مع طلابه وخريجيه، ولا يزال يقوم بها مع كلّ جيل جديد في كلّ فصول تعليمية.
تكلّمنا عن أربع مبادرات فقط، مع أنّ اللائحة تتخطّى العشر مبادرات. ولكنّ الوقت لم يتّسع لمناقشة أكثر من هذا العدد، لأنّ تلك "المبادرات الفردية" هي بحجم مشاريع حكومية ضخمة على صعيد الوطن كله، فيها كلّ ما ليس في الحكومة وأقسامها. فيها كفاءة، شفافية، جدية، تنمية، استدامة ونية في بناء مشاريع يستفيد منها كلّ من لا "محاصصة" له من الاستفادة.
مشاريع تكنولوجية تعمل على تطوير مهارات الشباب بما يلائم أسواق العمل، ومشاريع تقدم أنظمة حوكمة معاصرة للبلديات، وأخرى تملأ فراغ الوزارات من خلال تصميم وتنفيذ استراتيجيات قائمة على الذكاء الاصطناعي.
تحمّست، كعادتي للموضوع وعرضت أن نعقد شراكات مع الوزارات المختصة ونقدم عروضًا للجهات المعنية بالتمويل، وأتواصل مع دائرة معارفي المشابهين، لنجعلها مشاريع تنموية مستدامة على صعيد الوطن. ولكنّه أعادني إلى واقعي، وواقعه، وواقعنا! إذا ما وضعت "الدولة" يدها على مشروع كان قدره الفشل والإحباط، أو ربما صفحة في كتاب "العهد" أو"إنجازاتي".
تركت الحرم الجامعي وأنا حائرة بين خيبتي من سلطة تكبت مواهب أساتذتها، وتسرق أحلام شبابها، وتحاصص موارد شعبها - بترسيم أو بغيره. وبين أملي بكوادر أكاديمية ومبادرات تعليمية وطاقات طلابية لا تزال تقاوم وتجاهد وتحارب من إعادة تدوير فتات الوطن وحطامه، لعله يحوله إلى قدر أحلى.
ولكنّي خرجت وأنا متمسكة بأملي، لأنّ الوطن لا يُبنى إلّا بفكر وأمل أمثاله، ولو سبقت الأمل حروف العلّة.