النهار

فناجين روميو وجولييت وأخبار جدّاتنا التي لا تنتهي
المصدر: النهار - يارا حوحو – فرنسا
فناجين روميو وجولييت وأخبار جدّاتنا التي لا تنتهي
لست أعلم مصير كلماتي هذه، سلّة القمامة ربّما أو دفتر التدوين خاصّتي، أو يجتمع الشتات في عقلي ويشكّل نصّاً متواضعاً ينزوي على موقع صحيفة ما أو بين صفحات واحدة ورقيّة.
A+   A-
لست أعلم مصير كلماتي هذه، سلّة القمامة ربّما أو دفتر التدوين خاصّتي، أو يجتمع الشتات في عقلي ويشكّل نصّاً متواضعاً ينزوي على موقع صحيفة ما أو بين صفحات واحدة ورقيّة.
غريبٌ خوفنا، غريبٌ كيف نرعاه ونربّيه وكيف يكبرُ معنا. كيف يتحوّل
الوحش الصغير الذي سكن أسفل أسرّتنا إلى قلق غير مرئي يلاحقنا طوال يومنا. كيف تغدو العتمة التي كنّا نخشاها واقعاً يحول دون أي أفق واضح. والأكثر غرابةً في الأمر هو من أصبحنا، وكيف تخلّينا وتنازلنا إلى هذا الحدّ. أهكذا نطبّع مع الحياة؟ أو هكذا ننجو؟ في السادسة
عشرة من عمري كنت أحضّر كتابي سراً، أجمع مدوّناتي خفيةً في دُرج داخل خزانتي، وكان عنوان كتابي اقتباساً لمحمود درويش "على
هذه الأرض ما يستحقُّ الحياة". وفي الفصل الأوّل كتبت: على هذه الأرض من يستحقُّ الحياة، على هذه الأرض نحن وشجرُ الزيتون،
وزهرُ تشرين، والليلُ والقمر والنجوم. على هذه الأرض سنابلُ القمح وجراحٌ مشتعلة لا تخمد، وفيها وطنٌ يتيمٌ متألمٌ يلملمُ جراحهُ بحرقة وهدوء كبيرين، يرثي شبابهُ ويدفن أحلامهم تحت حطام دماره. أخذت مدّوناتي معي إلى فرنسا حيث أقيم الآن، وانقطعت عن الكتابة. وخذلت نفسي، وكلماتي، وجدّي الذي كنت قد أهديت كلماتي لروحه. كبُر خوفي وشمل الكتابة، وبتّ أخاف من أيّ شيء، حتّى إنّي أخاف من نفسي، وعلى
نفسي، أخاف أن أخذلها وأتنازل أنا أيضاً كما فعل الآخرون. كيف دُمّرت
المساحات الآمنة التي حفرناها في رؤوسنا، كيف كبُر خوفنا إلى هذا الحد؟ كيف نهرب من رؤية أنفسنا في المرآة، فنرى الخذلان في عيوننا. الوحش الذي كان أسفل أسرّتنا، هو اليوم في داخلنا، يطاردنا في المساحة الأكثر أماناً. الوحش قتل أحلامنا وما نحبّ ونريد أن نكون، الوحش هو النظام الذي أفرغنا، وأفقدنا شغفنا وسلب منّا من نحبّ وما نحبّ. أيفهم أحد معنى أن يغترب الإنسان عن نفسه؟ وخطورة أن يعيش في اللامعنى وسط حرب إلغاء الوجود الثقافي والنفسي والإنساني، حرب يدفع ثمنها من لا يملك غير جوهر وجوده الإنساني.
في الخامسة عشرة من عمري، طلبت من جدّتي أن تعطيني مجموعة فناجين روميو وجولييت خاصّتها، ولمن لا يعرف تعدّ هذه الفناجين من أهم تحضيرات مستلزمات العرس، وهو تقليد توارثت عليه جدّاتنا، وانقطع
مؤخراً في عصر "النهضة الثقافيّة"، نهضة الإلغاء والفراغ واللامعنى.
نقلت الفناجين لبيتنا، حيث أحتفظ بها لحين انتقالي إلى منزلي الخاص أو زواجي على حدّ قول جدّتي، ومنعت والدتي من
استخدامها خوفاً من كسرها أو إحداث أي ضرر بها. ربّما ليست مجموعة الفناجين الأكثر جمالاً وتعبيراً للفنّ، لكنّها شهدت تاريخ جدّتي وجدّاتنا جميعاً، قصصهن وصباحاتهن وجمعاتهن، دموعهن خفيةً وهمومهن. وهذا ما يربطنا بهنّ، الألم، والذاكرة والكثير الكثير من الحبّ. في كلّ مرة قبل أن أغادر لفرنسا، وفي لقاء وداع جدّتي ننظر في عيني بعضنا البعض، وأرى
دمعة خجولة في عينها وكأنّ كلتانا تعرف لمَ تبكي كلّ منّا. ويرجحّ أنّ كلتانا تبكي خشية أن يكون هذا لقاؤنا الأخير.


الأكثر قراءة

سياسة 11/25/2024 1:35:00 PM
وجّه المتحدّث باسم الجيش الإسرائيلي، أفيخاي ادرعي، تحذيرات جديدة إلى السكّان المتواجدين في منطقة الضاحية الجنوبية

اقرأ في النهار Premium