الإثنين - 16 أيلول 2024
close menu

إعلان

نهر الذكريات

المصدر: النهار - فيوليت عطية
استوقفني صوت تدفّق المياه السريع في هذا النهر الجاري بقوّة بفعل غزارة الأمطار
استوقفني صوت تدفّق المياه السريع في هذا النهر الجاري بقوّة بفعل غزارة الأمطار
A+ A-
استوقفني صوت تدفّق المياه السريع في هذا النهر الجاري بقوّة بفعل غزارة الأمطار. في ذلك اليوم الماطر تدفّقت مياهه دفق الحنين في قلبي.
ركنت السيارة جانباً وصارت دموعي تسابق مياه الأمطار. أنصت ولا مجال للإنصات فقط، بل صوت هدير المياه يستوجب النزول من السيارة فوراً وتتبع مجريات الأمور. فتدفق مياهه دفق في الحنين إلى أيّام خلت من أيام طفولتي في فصل الشتاء.
ونظرت إلى الوادي الذي يسلكه النهر الممتدّ بين الجبال في تلك القرى اللبنانية الجميلة في منطقة بلاد البترون، وصولاً بمشواره الطويل إلى البحر. طبيعة ساحرة تقاوم برودة الشتاء باخضرار جميل لا مثيل له، رسمته ريشة رسّام يتقن فنّ الجمال وسحر الإبداع سبحانه تعالى. إنّ تقرقع المياه على الحجارة ليست صافية بل تجرف معها الأتربة عن جوانب النهر، فتكسبه لون دم أدونيس الذي صارع الخنزير البرّيّ من أجل محبوبته عشتروت، فصبغ دمه مياه النهر. الطبيعة الجبلية الجبّارة تقف في وجه الرياح والعواصف والثلوج، تبقى أشجارها خضراء طيلة أيّام السنة، حتّى في فصل الشتاء. هي هكذا انعكست على نفوس أبناء المنطقة قساوة وقوّة ونضارة وعنفواناً وشغفاً لحبّ الأرض والإنسان.
وقفت جانباً وما زالت دموعي تسابق مياه النهر وتختلج الذكريات في نفسي وتتراكض مع جريان المياه .
تعالوا لنذهب ونتفرج على جريان النهر في الوادي. فنركض من قرب المدفأة متأهبين لتلبية نداء القائد، كأنّنا كتيبة في الجيش عندما يؤهّب جنوده .وسط صوت أمي المنافي للأمر. ولعلّ الأسباب المولجة للخروج بعد الواسطة كانت بضرورة الحرص على لباس الألبسة الصوفية ووضع القبّعات وانتعال الأحذية المحصّنة لهكذا طقس. وأخذ الحيطة والحذر، وسلسلة أوامرلا تنتهي، وقوانين نبصم على الموافقة عليها، مع العلم أنّنا لم نكن نطبّق منها شيئاً.
هنا يا نهر نقف ونراقب منسوب مياهك صغاراً، ونتوقّع كمية الأمطار كعلماء الطبيعة ومقدار الثلوج على الجبال. ومن خلال صوت مياهك التي لم تتغيّر، نتزوّد بالمعلومات عن حالة الطقس للأيام القادمة.
منك يا نهر نكتسب صوراً وعواطف لمواضيع الإنشاء. غداً في الصف عندما تطلب منّا المعلمة أن نصف الطبيعة في فصل الشتاء. فتنطبع صور جميلة بأقلامنا الصغيرة على صفحات دفاترنا البيضاء.
هنا يا نهر حيث الآن تفوق دموعي كمية أمطارك، نبتعد خوفاً منك ونتيقّظ من قوّة جريانك، نخافك ونحبّك في آن.
يا نهر الجاري مع الأيام، يا من كنت تجذبنا إليك من غفوة حالمة ودفء منزلنا ببراءة وشغف نركض لنشاهد جمالك، ونغرف منك لحظات جميلة لا تفنى مع الزمن.
وتتتابع الصور والذكريات، ولماذا اليوم وأنا أمرّ كلّ يوم على هذا الجسر. لماذا هذا الصخب من الذكريات والحنين. لماذا هذا الحنين؟ لأنّنا ابتعدنا وصار مستحيل اللقاء؟ أيّها النهر الجاري بين ضلوعي اليوم، وليس على الأرض فقط، أيقظت في نشيد الطفولة البريء. صوتك الصاخب يضجّ في قلبي فاسمع صوت ضرباته التي تعدّت المئة. يا نهر الذكريات أعدت إليّ هذا اليوم سمفونية ساحرة أخذتني عبر مياهك تأرجحاً يميناً ويساراً. أبكتني وأضحكتني، أنعشتني وأذبلتني في آن. والآن عليك أنت أن تكمل طريقك إلى البحر الواسع، وعليّ أنا أن أكمل طريقي في هذا الكون الواسع. فالذكريات نسترجعها للحظات لتدفعنا إلى الأمام لسنوات.

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم