النهار

"ثرثرة "بيروتية"
هجرتني الكتابة منذ عامين أو أكثر!
A+   A-
هجرتني الكتابة منذ عامين أو أكثر!
لا أعرف سبباً ملموساً، وربّما لن أعرف في القريب العاجل.
كل ما يتصل بالقراءة والكتابة هو علاقة مباشرة بين أشياء داخلية في نفسي وبين أدواتها المعتادة. أما عن قراراتي العقلانية، فهي بعيدة كلّ البعد عن هاتين الهوايتين أو ربما الجزئين من روحي إن صح التعبير.
أعلم أن العديد من أصدقائي يعتقدون بأنني أهملت القراءة والكتابة عن قصد أو عن غير قصد.
في الحقيقة، لم أكن قادرة على القراءة، كان جزءٌ مني يقاوم أيّ شي متصل بالكتابة الإبداعية!
يخطئ من يظن أنني تركت نفسي هكذا دون محاولة أو إجبار…
في الحقيقة، لم تخلُ أيامي من تدوينات صغيرة أو محاولات للكتابة، وكنت أنجح خلسة في سرد بعض الأحداث أو تأليف شيء جديد، دون نشره أو إرساله لأحد، كعادتي في السابق، سوى طبيبي النفسي أحياناً. نعم، إنني قيد التحليل النفسي منذ عامين أو أكثر، ولا أعرف المدة المتبقية، ولا أعرف إن كان هذا التحليل سبباً مباشراً في ذاك الهجر الطويل…
هي مقاومة اللاوعي في التعرية التي تحدثها الكتابة، أم اتصال غير معتاد بالأنا، وهذه الفوضى الناتجة عن الأشياء غير المألوفة!
يا لبؤس أسئلتي التي لا تنتهي!
تترصدني الاسئلة كل الوقت. ترى هل يجد البشر إجابات شافية في نهاية مطافاتهم، أم يبقون قلقين ساعين إلى الأبد؟
أعلم أن كثيراً منهم قرر الاستراحة من هذا العبء عن سابق إصرار وترصد. ليتني أستطيع تقليدهم… ليس خياراً بالنسبة لي.
الأسئلة هي الوجود؟ طالما أبقتني الحياة موجودة على كاهلها، فسأمضي استرشد طريقي إلى وديانها وجبالها وسهولها وبحارها وأنهارها وكل تضاريسها الملموسة وغير الملموسة عبر البحث.
هكذا فقط أبقيني موجودة.
السؤال هو أنا، والإجابات هي الحياة.
لست أبالغ إن قلت إن تأملاتي هي انعكاس لتلك الأسئلة اللانهائية وفضولي النَّهم تجاه هذا العالم المبتكر.
أين بيروت في مقالتي هذه؟ إنّها بين السطور، مختبئة تعكس ضوءاً يُنير الكلمات التي أرصفها عبر تقنية النسخ.
ممّا أنسخ؟
إنه كتاب داخلي، ربما يسبح في شراييني، أو عالق في موادّ دماغي اللزجة، ينتظرني حتى أضيء له المصباح وأخرج ما بداخله عبر خاصيّة الرموز المخترعة والمسماة "حروف".
تقول لي امرأة عجوز تقبع في عقلي تنتقد دائماً ما أقول: "دعكِ من الفلسفة، توقفتِ عن الكتابة لأنّ قريحتك ارتعدت خوفاً من القادم، بعد أن استهلكت فرصة إصدار الكتاب الأول، الذي يعتبره الكثيرون تجربة لا بدّ منها، يُباح فيها لكلّ كاتب بعض الأخطاء، أو الرعونة الأدبية، وتبرّر له دون حساب أو عواقب حيث إنه في خضم اختبار النشر، ومازال قيد التجربة، وعدم النضج".
أقول للعجوز الشمطاء: "ربما، لكن هذا الأمر يمنعني من النشر. أما الكتابة نفسها فهي فعل غير معلن، ويمكننا ممارستها سرّاً قدر ما نشاء، ولن يحاسبنا عليها أحد".
تحاول التأتأة وإقناعي بمزيد الحجج البيزنطية، فأُسكتها بأنني لا أبحث الآن عن السبب الذي أبعدني، كبحثي عن السبب الذي أعادني.
أعتقد أنها بيروت؛ ليست بيروتُ المدينة التي تضاء مصابيحها تارة فتثير روادها سحراً، وولهاً، وتنطفئ لآخرين يقبعون كالجرذان الشاردة، فتظن أنها أقذر مكان في العالم.
إنها بيروت الحرية التي تسمح لي باتصال مختلف مع "أناي"؛ بيروت التي جمعتني مرة جديدة بـ"سارة" التي تثير فضولها قصص كلّ الكائنات؛ المشاغبة، الضّالة، المؤمنة، المتيقّنة، المتزمّتة، الواثقة، القلقة، المتعجرفة، الساكنة، المجنونة…
بيروت، طريق إلى داخلي.
بيروت بوصلتي إلى جزئي الضائع.
بيروت التي تألّمت كثيراً بصخب، وبصمت.
بيروت التي سمحت لكل الزائرين أن يستقوا من جوفها كلّ شيء، وتركت لهم أكثر ممّا توقعوا، ومع ذلك تعفّفت عن مطالبتهم بأي شيء؛ حتى الدفاع عنها يوم انفجرت خلاياها ونزفت شوارعها دماً وكبرياء.
هكذا هي بيروت؛ تعتقد أنها مجرد مدينة مثيرة إلى الأبد، وربما تعاملها كفنّان متذوّق لما يحيط به، فتكتب أشعار وصوراً بلاغية تصف شوارعها وروادها وإيقاعها المختلف. ولن نبالغ إن وصفنا عراقتها، وزَهَوْنَا أمام العالم أجمع بأننا ننتمي إليها.
أما أنا، فأرى بيروت بعيني طفلة، وأحبّها بقلب طفلة، وأصدق المشاعر هي مشاعر الأطفال. ولطالما شعرت- بل إنني على يقين من هذا الأمر- بيروت هي جدتي، بيروت هي جدّة هذا الكون.






الكلمات الدالة

اقرأ في النهار Premium