حلّ الصوم الكبير أو الصوم الأربعيني، وفتحت معه أبواب السماء والتوبة وموسمُ الأقحوان الأبيض المتلألئ كالثلوج، فمن صام يمنح مُلك العلاء. وحين نتعمّقُ في معاني الصوم وخفاياه وأبعاده الإنسانيّة والأخلاقيّة، نجد أنّه تهافتٌ للقلوب في معبد النور، وتسامٍ للأرواح في فلَك الرب، وتقرّبٌ من يسوع المسيح الذي تهالكت قوى الشرِّ أمام عظمته، وتكاملٌ لمحراب الصلاة الذي يمجّدُ الله في ملكوته العظيم. الصومُ هو في الأساس الامتناعُ عن المقت والحقد والكراهية، وأن نتكاتفَ من أجل السلام ونتآلفَ في فعلِ الخير، وتكفَّ الألسنةُ عن الغيبة والنميمة، وأن تعفَّ الأذهانُ عن الشكّ والريبة في الآخرين. الصوم هو أفضل الأيّام لتطهيرنا من الآثام، والتفكير في أمر الرب وتعاليمه ووصاياه.
الإنسان روحٌ وجسد، وفي صوم الجسد إيعازٌ للروح بالإمساك عن الشهوات والترفّع عن الملذّات الحسيّة والمعنوية. ولكنّ الكثيرين اليوم يخالفون مبادئ الصوم، ويكتفون بالامتناع عن تناول ما نُهوا عنه من أنواع الطعام، ويتناسون بأنّ نبيذَ التوبة لا ترتشفه إلّا النفوسُ الخاشعةُ والمترفعةُ عن الآثام. وقد قال يسوع: "أمّا أنت، فإن صمت، ادهنْ رأسكَ واغسلْ وجهكَ، لكيلا تظهر للناس أنّكَ صائم، بل لأبيكَ الذي في الخُفْيةِ، وأبوكَ الذي يرى في الخُفيَةِ يُجازيك" (متى).
إذن، فاجتنابَ المحارم أهمّ تعاليم الرب، حتّى يصونَ الإنسانُ قلبَه ولسانه بل جوارحه وحواسّه جميعها. والصوم أيّامٌ مباركةٌ يسمع فيها الله صلاة المؤمنين، ونداءَ الأشقياءِ والمستضعفين، ومن ظفر بالقليل من رحمة ربّه فكأنّه امتلك الدنيا وما فيها.
إنّ بابَ التوبة مفتوحٌ على مصراعيه لمن يقصده، إن تفكّرَ الإنسانُ بأنّ الحياةَ زائلة لأنّها دار الفناء، وأنّ البقاءَ لله وحده، وأنّ الشرَّ لا يجلبُ سوى الشر، والحرب لا تجرُّ إلّا حروباً وويلاتٍ وانتكاساتٍ دائمة، ولأنّ رياحَ المعاصي تقتلع جذورَ الفضيلة ولا تخلّف للإنسان سوى خربةً من الوحشة والدمار وفقدان الضمير وضياع الإنسانيّة.
لقد وضّح لنا يسوع بأنّه في الصوم يتساوى الفقير والغني معاً، لأنّ النفسَ هي الأمّارة بالسوء أو الخير، ومن تطهّرَ من أدران الخطيئة يفوز بلقاء ربّه ويصون كيانَه من اقتراف الرذائل والتكبّر على نِعم الله، ويحمده على ما وهبه من عقلٍ وإدراكٍ وأنفاسٍ تتردّد وجسدٍ يتحرّك.
المحبّةُ والغفران اساس الدين المسيحي، لأجله جاءَ المسيح ليحملَ الناسَ على التوبة، ويخلصهم من الخطيئة، ويرجمَ الجهلَ والتضليل، ويشجّعَ على تحصيلِ المدارك الدينيّةِ والثقافيّة والعلميّة والأخلاقيّة، فما من معصية تُرتكب إلّا وراءها جاهلٌ بتعاليم الأديان وصِفاتها السماويّة.
لقد قيل بأنّ الفيلسوفَ الخالد سقراط كان مدفوعاً بصوتٍ داخلي مقدّس رغم تشكّكه بالكثير من نواحي الأمور الحياتيّة، وكذلك حاول الكثير من الأدباء، أمثال غوته وميخائيل نعيمة وجبران خليل جبران وتولستوي وفيكتور هوغو محاربةَ التطرّف ومؤازرة الدين المسيحيّ النقي الذي يرفض المغالاة والتبجّح، ويدعو للنقاء والبهاء والطمأنينة الداخليّة والسلام مع النفس ومع الغير.
قال القديس أغسطينوس: "أتريد أن تصعد صلاتك إلى السماء، فامنحها جناحين وهما الصوم والصدقة"، هذه هي تعاليمُ الدين المسيحي الذي يأنف عن الخطيئة ويطهّرها ويحرّرها من سجنها السحيق، ليحوّلَها إلى فضيلةٍ ساميةٍ وباسقة.
فليتمجّد اسم ربنا يسوع المسيح في السماء، وعلى الارض فقد كان وما يزال منذ الأزل نثارَ النور وغمارَ المجد وأيقونة الخلاص الأبدي، وقدوةً لنا في هذه الحياة الزائلة.