يقول دوستويفسكي: لا يمكنك أن تُشفى في نفس البيئة التى جعلتك مريضاً... غادر.
ويقول جلال الدين الرومي: هروبك مما يؤلمك سيؤلمك أكثر، لا تهرب... تألم حتى تشفى.
أما الواقع وخاصة الوضع الراهن في لبنان فلسان حاله يقول لا أفق للشفاء إن بقيت أو غادرت، ففي الحالتين هنالك خلفيات تستوجب عليك أعباء وتفرض عليك دفع فواتير حياتية باهظة قد تصل إلى زهق روحك مقابلها وربما لا تستوفيها أيضاً.
فحالة الانحلال التي باتت من مكونات المجتمع اللبناني لا تفسير لها إطلاقاً، وقد حولته إلى مجتمع يمارس الانحطاط بكل ما تعنيه الكلمة من معنى (ويكفي أنك تقوم بجولة واحدة على السواد الأعظم من شوارعنا وبشكل خاص معظم شوارع العاصمة لتشاهد بأم العين المستوى الفاضح من الانحلال المجتمعي والانحطاط الأخلاقي وخاصة عند أي تقاطع مروري).
ستشاهد عينة مصغرة عن المستوى اللاأخلاقي وغير المسؤول عما وصلنا إليه في لبنان الذي كان في الزمن الغابر قمة في الرقي والأخلاق ونموذج عصري يحسدنا عليه الكثير. فمقولة الشيخ زايد بن سلطان (رحمه الله) "حلمي أن أرى الإمارات واحة خضراء مثل جبال لبنان"، دليل على تلك المكانة التي كان لبنان يتبوّأها فيما مضى وبين ما نحن عليه الآن من واقع أليم.
لا يتوقف الحال هنا، فالوضع الراهن لا يبشر بالخير أبداً ومؤشرات السقوط ترتفع بشكل مقلق بل بشكل مرعب قد لا تبقي ولا تذر، وقد تعيدنا إلى مشاهد الحرب الأهلية المشؤومة وويلاتها التي قد تفوق أضعاف الخسائر التي تكبدها لبنان نتيجة الاقتتال والصراع الدموي الداخلي آنذاك.
ناهيك عن الصراع المسلح الدائر في جنوب لبنان والذي بدوره الكيان المحتل قد يجده فرصة سانحة لتعويم فشله في غزة بتصعيد أكبر وأعمق واتباع سياسة الأرض المحروقة كما فعل بغزة باستخدام كل ترسانته الشيطانية لتدمير ما تبقى من لبنان على رؤوس من بقوا فيه، وتعميق الجراح أكثر وخاصة إذا نفذ ما يوهم نفسه فيه ألا وهو اجتياح بري لما يسمى جنوب الليطاني.
حسب التقديرات، فإن نحو 60 في المئة من السكان في المناطق الحدودية نزحوا إلى أماكن متعددة منها ضمن الجنوب ومنها خارجه، وبالتالي فإن القسم الكبير من المناطق التي تعتبر بيئة غير حاضنة للمقاومة والتي تعتبر ملاذاً للنازحين، استغل أصحاب المنازل فيها هذا النزوح القسري وقاموا برفع الأجور بشكل جنوني ومبالغ فيه حتى وصل إلى حدود 200 في المئة خلال الأشهر المنصرمة. فإذا قمنا بمقارنة بسيطة حول نسبة النزوح الحالي لبعض مناطق الصراع (الشريط الحدودي) والتي تشكل نحو 60 في المئة وتسببت بشبه أزمة في ارتفاع إيجارات المنازل وكذلك السلع الغذائية، وإذا قمنا بإضافة النسبة ذاتها (60%) من سكان جنوب لبنان (إذا قام العدو المحتل بإجتياحه المزعوم)، كيف سيكون الوضع عندها؟ وما هي النسبة التي قد تصل إليها الإيجارات وارتفاع السلع العذائية؟ خصوصاً وأن الصيام عند المسيحيين والمسلمين، يرخي بثقله ككل عام على كاهل المواطنين حيث يقوم التجار برفع الأسعار أضعاف سعرها المتداول قبل وبعد فترة الصيام وشهر رمضان.
وهنا تكمن المعادلة المعاكسة (هروب - بقاء).
بطبيعة الحل الهروب غريزة الحياة وأما البقاء فهو خيار. أما في واقعنا كلبنانيين فهو قدر وقلة حيلة وفرضٌ مجبرون على تجرع سُمّه رغم أنوفنا حتى (يغيروا ما بأنفسهم).
قدرنا أن نعيش صيفاً وشتاءً تحت سقف واحد، ولكن غير موحد، فلا ديجور لتغيير هذا الواقع في فجرنا الحالي رغم جميع الأزمات والصعوبات المتعددة، ورغم الإذلال في مرافق الدولة وعلى محطات الوقود ومع كل رغيف خبز، ناهيك عن الضغط الكبير جراء الأعداد الكبيرة للنازحين السوريين التي باتت تشكل عبئاً كبيراً على الوضع المعيشي والاجتماعي، ما زلنا خانعين مرتهنين لمنظومة الفساد من جهة ولآلهة الطوائف والأحزاب من جهة أخرى.
فرحم الله لبنان الحلم والمستقبل... ولكم من بعده طول الشقاء.