النهار

عندما زوّجنا فلسطين مغتصبها
المصدر: النهار - سارة الدنف
عندما زوّجنا فلسطين مغتصبها
لن أخفي عنكم أنني كنت أستغرب بشدّة كيف قمنا كشعوب عربية، ولِنَقل هول ما عانته فلسطين، بأن ننعتها بالمغتصَبة (بفتح الصّاد). فنحن، سكّان هذه البقعة المريرة من الأرض، نتفنّن بتكذيب النساء إن تعرّضن للفعل ذاته، مستعجلين غسل العار بجريمة أو زواج.
A+   A-
لن أخفي عنكم أنني كنت أستغرب بشدّة كيف قمنا كشعوب عربية، ولِنَقل هول ما عانته فلسطين، بأن ننعتها بالمغتصَبة (بفتح الصّاد). فنحن، سكّان هذه البقعة المريرة من الأرض، نتفنّن بتكذيب النساء إن تعرّضن للفعل ذاته، مستعجلين غسل العار بجريمة أو زواج.
ولكن، بعد السابع من أكتوبر، فهمت أننا ما نعتناها بذلك بغرض المواساة، أو إعراباً عن تعاطفٍ مع التّنكيل الذي عانته تلك الأرض، أو حتّى استعجالًا لإنقاذها. بل أعطيناها اللقب الأمثل للانغماس في إذلالها أكثر، ريثما يقومون بحلِّها، أو يطبّقون حلّ الدولتين، أي قتلها أو تزويجها مغتصبها الذي وُسِمَ على جسدها منذ العام الثامن والأربعين؛ تمامًا كأي امرأة عانت الظرف نفسه.
يتركني هذا التشابه القاسي مع قلمٍ جارف وتساؤلات متناقضة، في رغبة بالتوجه إلى رجولية العالم العربي المتداعية. لذلك استمعي إليّ ولو قليلًا؛ فأنا أعرف كم يصعب عليكِ الخروج عن عصمة الغرب لقراءتي بتجرّد. أتوجه قبل كلّ شيء لعجزكِ عن الرّد، ورغبتي بتثقيفكِ بأسئلتي ومحاولات إجاباتي.
لِمَ يستخدم الجنس سلاحًا ضدّ المرأة في جميع الحروب والنّزاعات تقريبًا؟ صدقًا؛ من أين انبثق الاعتقاد بأنه أكثر الوسائل تدميرًا للنساء، كأنّما طبيعة أجسادهنّ بحدّ ذاتها ليست قاهرة كفاية؟
تطرّفي النسوي يحملني للاعتقاد بأن الأمر يعود ببساطة إلى دور المرأة في الجنس بحدّ ذاته. فيكفي أن يرخي المجتمع شبه الحضاري ضوابطه حتّى يظهر الأمر على حقيقته. وكأنه سلاح الحرب الوحيد الذي يتمّ بديهيًّا؛ دون الحاجة إلى تخطيط أو تمويل أو حتّى توجيه.
هل يمكن للأمر أن يكون ببلاهة إقرار اللاوعي الجماعي أن ما يُختَرَق بالضرورة مُهان؛ بعيدًا حتّى عن خصوصية الحضارات أو الانتماءات الدينية؟
جسد مستباح لغةً وفعلًا
"ما يستبيحه اللسان في أوقات السلم هو أول ما تنتهكه عبثية الحرب".
يتناول عالم الاجتماع الفرنسي بيار بورديو في كتابه (الهيمنة الذكورية) موضوع تأثير اللغة في إظهار الموقع الاجتماعي الذي تتبوؤه المرأة بالمقارنة مع الخصائص الجنسية لكلا الجنسين. فيذكر على سبيل المثال أن "الجسم بأكمله مبني اجتماعيًا، تمامًا مثل الأعضاء التناسلية ذاتها، من خلال تنفيذ أنماط،...)، وهذه الأنماط يتحكّم بها العديد من الأضداد، كالفرق بين الاستقامة والانحناء، الأمام والخلف، التي تُطبق على الجسد الذكوري والجسد الأنثوي وتحدّد بذلك خصائص السلوكية لكلّ منهما. من الجدير بالتّحديد أن السلوك الذكوري يستئثر برمزية الجزء العلوي، فيكون إذًا "الجبين" عضوًا رجوليًّا بامتياز ويرمز للمواجهة؛ "الاستقامة"؛ ورؤية الخصم في عينه، على خلاف السلوك النسائي الذي يستعدي إحالة البصر و"الانحناء". ليغدو كابوس الرّجل الأوّل، أن يُنعت بالمرأة.
في السياق نفسه ولتوضيح أبرزٍ لاحتقار المرأة في الفعل الجنسي -الطبيعي- يروي بورديو اكتشاف الرجل الجنس للمرة الأولى من خلال أسطورة "النافورة". فالمرأة الشهوانية والشيطانية، المتمرّسة في الجنس، تأخذ المبادرة فتكون هي "في الأعلى" وتتولّى قيادة العلاقة مع الرجل الساذج، البريء عند تلك النافورة الشهيرة. ولكن عندما يروق له الأمر يقرّر تكراره، ولكن بالطريقة الصحيحة هذه المرّة؛ أي أولاً في المنزل، في الفضاء المغلق، المقدس، وليس في النافورة، الّتي تمثّل الفضاء الخارجي، الرطب، أي الأنثوي بشكل نموذجي. وبالتالي، يتم بناء العمل الجنسي نفسه ويتحوّل الشكل الأوّل لعلاقة تقودها المرأة لنوعٍ من أنواع التجديف والكفر حتّى.
تخيّلوا إذًا أن يتاح للاوعي مشبّع إلى هذا الحدّ بفروقات أساسها جنسي أن يطلق العنان لـ"رمزيّة سيطرته" بفعل حقيقيّ في خضمّ المعارك.
أيسعنا غير الإجابة بما قالته المؤرّخة والمتخصصة في الدراسات الاستعمارية وما بعد الاستعمارية زينب بن علي بأن "كلّ حرب - ما هي إلا- حرب أجساد؟".
الاغتصاب كفعل اختراق بحت
قد يكون أكثر من شرّح عقلية المستعمر هو الطبيب النفسي الفرنسي فرانز فانون في كتابه "الملعونون في الأرض". إذ يتحدّث في كتابه عن الاغتصاب برمزيته لا لكونه فعلًا جسديًّا بل لتشكيله الهوامات الجنسية في مخيّلة المستعمر، في إطار الاستعمار الفرنسي على الجزائر.
ففي عقل المستبدّ "الاغتصاب هو ركيزة الاختراق الغربي لمجتمعات السكان الأصليين". ويتابع في وصفه لفانتازيا الأوروبي، بأن كلّ عملية اغتصاب لامرأة جزائرية يقوم بها يسبقها تمزيق لحجابها؛ لما يمثّله ذلك من صورة غريبة تكاد تكون "فيتيشًا" جديدًا يشعره أنه أفقد المرأة عذريتها مرّتين، بل وأكثر إذ ينتابه ذلك الشعور بأنّه احتل بلادها باحتلالها هي.
ليؤكّد البروفيسور توماس ألبرت أستاذ علم النفس وعلم الأعصاب السلوكي في جامعة كونستانتس الألمانية أن الاغتصاب في الحرب غير مرتبط بالأوامر بقدر ما هو فعل الغريزة والشهوة. ويضيف بأن الجنود غالبًا ما يرونه على حدّ تعبير نيتشه "كاستراحة المحارب"، وربّما قد تكون المنفعة الشخصية الوحيدة الّتي سترجع عليهم من التوغل في ساحات المعارك وقنص الأبرياء! فأين يكمن الشعور بالانتصار في الاختباء من رصاصة وقذف أخرى في المجهول؟ أين الشعور بالاحتلال الحقيقي إن لم يتمّ تحقيقه "فرديًّا"؟ متى ينتشي جندي عاش طيلة تدريبه منحنيًا لقادته، مرميًا كطعم للموت، بغير استعادة رجولية أخصتها الحرب بـ"طعن" امرأة من نساء العدو؟
لذا تذكّري أنكِ "شنقت المرأة معتصِمة، وزوّجت بلادًا مغتصَبة".


الكلمات الدالة

اقرأ في النهار Premium