خجلَ الليلُ وجهَكِ، من صحبٍ لا يشبهونكِ، ولا يليقون بقامتك، آه وألف آه يا بيروت.
يا لقبح الزمان، وغدر الإنسان، وقيح القدر من سلوك البشر، تلك التي خاواها الألقُ، قد ساور فكرَها القلقُ وأضنى نومَها الارقُ، وساكنَ الموتُ أحداقها، وأحكم الجوعُ خناقها، وهدَّ الخنوعُ كبرياءها.
ويحَ الفرح في لياليك الطوال، فشياطين البشر قدْ طاردتهُ من شارعٍ الى شارع، حيث أمسى خبراً، والجواسيسُ أصبحوا كالنُدل يقدمون على موائدِ المطاعم والمقاهي وجباتٍ من الحقد والكراهية لكلِ شقيقٍ وصديق، وبائعُ الورود الحمراء طُرد من أزقتك، وحلّ مكانه حاملُ القنابلِ والرصاصِ، وفاقِهُ الموت وكارِهُ الحياة بكل ثقافاتها.
جلتُ سهرَ الليالي وجدتُ أضواءها قد خُطفت، ونزلاءها قد غيبوا، وتلك الفنانة الراقصة والفاتنة، التي غوت بنظراتها قلوباً، وجمعت حولَ خصرها بشراً من المحيط الى الخليج، قد هاجرت بعيداً بعد أن حكموا بإعدامها، ومزقوا فستانَها وألبسوها ثوبَ السياسة والتديّن والطائفية والعصبية.
غابت أنغامُ وموسيقى الكبار، وصدحت مكانَها أصواتُ الأناشيدِ الواعدة بالموت للشيطان... وملأت أصداؤها شوارع سميت بأسماء اللصوص والزنادقة والطغاة.
أشكيكِ يا أمّ الأرض ذكريات تعيد الى خيالي أروعَ الصور، مستعيداً فيها نشوةَ الفرح، يوم كنتِ تضجينَ بالحياة، ولم ندرك حينَها أن عِزَّك كانَ تعاسة للناظرين إليكِ بعين الحَسد.
قرأنا في عيونكِ نصوصاً لم نقرأها في كتبِ السموات، ولم نعتبر من دموعِك أنّ الثقافات وإن ارتقت لن تبلغ أبعادَ الإنسانية.
كلحت الايامُ يا بيروت، وسكنت الوحشةُ الأماكن، وصمتت الألسنُ، وما أعدّ لكِ في الليالي اللثام، لم تعُد تقوى عليه الأيام.
أستودعك أيتُها الجريحة ضميرَ الاحرارِ، وقلوباً قد تدمع يوماً ولكن... لن تمُوت.