كشفت الحرب الأخيرة على غزة تباين الهوة بين الأنظمة العربية وشوارعها التي تثبت كلّ يوم تمرّدها على اتفاقيات السلام المتأرجح مع الكيان الصهيوني.
هذه الحرب كشفت وهم السلام في سردية دولة الاحتلال الماضية أكثر من أيّ وقت مضى، في تركيز دولتها المارقة على جغرافيا الأرض والمحرّفة منذ قديم الزمان لتاريخها. هذا الطرح بدأ يظهر أكثر للعيان من خلال ملامح الخريطة الجديدة.
خريطة الشرق الأوسط الجديد:
انتبهت الأنظمة العربية متأخرة أن أهداف العملية العسكرية على غزة تهدف إلى رسم حدود جديدة للكيان الصهيوني متاخمة لجمهورية مصر العربية، وتحويل رفح إلى نقطة التماس الأصلية.
هذا التخطيط المفضوح ليس جديداً بل هو استكمال لما بعد الانفصال الأحاديّ وتولية مصر على معبر رفح بحكم التوازنات الاستراتيجية، لتصبح متحكّمة في المنفذ الرئيسي لمرور الأفراد والمساعدات.
كان هذا التخطيط يرمي إلى إجبار مصر على تولّي المسألة الأمنية خاصة تسليح المقاومة، وتحويل القطاع إلى منطقة حكم ذاتي منزوعة السلاح تمهيداً لبسط النفوذ عليها في ساعة الصفر، والاستفادة من الانفصال السياسي بين إدارة رام الله وسلطة حماس على غزة.
هذا الهدف أصبح اليوم ضرورياً بالنسبة إلى الكيان الصهيوني بعد تأكّده بعد عملية طوفان الأقصى أنّه لم يحقّق أهداف الانفصال وعزلة القطاع بالشكل الذي يخوله الاطمئنان على قدرات المقاومة وتحميل المسؤولية لمصر دون سواها.
إحراج النظام الرسميّ العربيّ:
لم يكن الموقف الرسمي العربي بعيداً عن تمشّي المهادنة التاريخية والتمسّك بالشرعية الدولية تحت مقتضيات حلّ السلام الحذر.هذه المرة تفاجأت العواصم العربية بخروج مواطنيها بشكل غير مسبوق للتنديد بالهجوم الوحشي على قطاع غزة في ظلّ الصمت العربي الذي زاد في إحراجه خروج مظاهرات عدّة في عواصم مختلفة، فضلاً عن المواقف النوعية لدول أميركا اللاتينية، وخاصة موقف دولة جنوب أفريقيا التي علّت سقف الممانعة والموقف، واستعملت العدالة الدولية كأحد أجنحة الشرعية الدولية لإدانة الكيان.
هذه التحوّلات التاريخية جعلت من النظام الرسمي العربي في وضعية ما بين مواصلة الصمت أو التنديد أو استخدام ما يتوفّر من وسائل رمزية لمناصرة الحقّ الفلسطينيّ، في فرصة مهمة ومفصلية من تاريخ الصراع العربي الصهيوني.
تحويل وجهة الموقف نحو قيادة المفاوضات:
في الإطار نفسه، التعامل مع مجريات الأحداث أخذت بعض الدول العربية زمام المبادرة لقيادة مفاوضات وقف إطلاق النار، ونقصد هنا كلّا من قطر ومصر، وهو توجّه منقوص ما لم يفضِ إلى سلام دائم وليس إلى استراحة محدودة لإدارة الصراع مثلما حصل في الهدنة الماضية.
هذه المساعي بالرغم من أنّها تقوم على تأبيد الوضع كما هو من حيث حثّ الكيان الصهيوني على إيقاف مجازره، وفي الوقت الحفاظ نفسه على قدرات الردع لدى حماس وسلطتها على القطاع، وهو ما يبدو أنّه يتعارض راديكالياً مع تعاطي الكيان الصهيوني مع مفاجأة طوفان الأقصى بما هي تحوّل نوعي في الصراع نحو آفاق الندّية والردع المستدام، وخاصّة بسط شروط التفاوض وفقاً لرغبة المقاومة في تحرير غزة، وهو ما يُعدّ منطلقاً لتحرير كلّ الأرض.
يبدو أنّ الأيام المُقبلة ستكون أكثر إحراجاً للنظام الرسميّ العربيّ الذي أضاع مثالية الحفاظ على السلام، ولم يعد قادراً على الإقناع بها كما لم يقنع يوماً بجدّيته في حسم الصراع التاريخيّ.