1. مَسيرٌ وعُبُور
"لقد وعَدتَنا وَعدًا صادِقًا بأن تكون معَنا إلى أَبَدِ الدَهر. فَبِذا الوَعدِ نَعتَصِم نحنُ المؤمنين، كمَرسى رجاءٍ، ونَبتَهِجُ مسرورين".
نعَم، يسوعُ هُوَ الوَعدُ الصادِق: "لقد قامَ يسوع" من القَبر كَما سبَقَ فقال ، ومنَحنا حياةً أبَديّةً وعظيمَ الرَحمَة".
مساء الإثنين من "الأسبوع العظيم" نُرَدِّدُ هذه الصلاة التي تُوجِزُ حُبَّ اللهِ للأنام: "إنّ هذا اليومَ الحاضر يُظهِر باكورةَ آلامِ الربّ بَهِيَّة. فهَلُمّوا إذَن، يا مُحِبّي الأعياد، نَستقبلُه بالأناشيد. لأنَّ الباري يُقبِل إلى المُحاكَمة والجَلْد والصلْب، فيُحاكِمُه بيلَاطُس، ويَلطمُه عبدٌ على وَجهِه، ويَحتمِل هذه كلّها ليُخلِّص الإنسان. لذلكَ فلنَهتِف له: أيُّها المسيحُ الإلهُ المُحِبُّ البشَر، امنَح غُفرانَ الزلاَّت لِلساجِدين بإيمانٍ لِآلَامِكَ الطاهِرة" . وطِوال الأسبوع العظيمِ المُقدَّس نَستَذكِر أنّهُ كان يُفكِّر فينا بِلا توَقُّف، ويَنظُر إلى مُستَقبَل علاقته الأخَويّة التي أَرساها خِلالَ المَرحلةِ التي عاصَرنا فيها كإنسان (عبرانيِّين 2 12):"تأمَّلوا فِيَّ ولَا تَستَكبِروا، بل اسلُكوا كالمُتَواضِعين، فاشرَبوا الكأسَ التي أَشرَبُها، لأنّكم ستَتمَجَّدون معي في مُلْكِ أبي" وأبيكم (يوحنّا 20: 17). لا بل أكَّدَ لأحبِّائِهِ: "إنَّني شأَشرَبُ معَكُم في ملَكوتي شرابًا جديدًا، يَفوقُ الوَصف. وسأَكونُ معكم أنا الإلَهُ كأنَّكم آلِهَة. لأنَّ الآبَ أرسَلني أنا الابنُ الوَحِيدُ غُفرانًا" .
وَبدَلًا من أن "نُهَيِّئ مصابِيحَنا لامِعينَ بالفَضائل والإيمانِ القَويم، لِنَدخُلَ (معَك) إلى العُرس، مُستَعِدِّينَ كعَذارى الرَبِّ الحَكيمات" - ... سلَكنا ونَسلُكَ معَك أو معَ بعضِنا البَعض بِما لا يتَّفِق وأفكارَكَ وأخلاقَكَ ، وكأن ليسَ "عِندَنا مِصباحٌ مُتَّقِدٌ بالفَضائِل" ، بل ذهَبنا أبعَد: إنَّا "خَطِئنا أكثرَ منَ الزانيَة (...) ولم نُقدِّم (لك) قَطُّ سُيُولَ دُموع" . صحيحٌ "أنَّ الكهنةَ والكتَبَةَ عقَدوا عليكَ مَجمَعًا جائرًا، ودَفَعوا يهُوذا إلى الخِيانة" ... لكِنَّا كلُّنا جَعلناكَ حَمَلًا "يتقدَّمُ إلى الذَبحِ طَوعًا، ويبذلَ ظهرَه لِلسِياط وخدِّيهِ لِلَّطمات، ولا يُحَوِّلَ وجهَه عن عارِ البَصَقات، ويُقضَى عليهِ بِمَوتٍ شائنٍ (إذ "عُلِّقَ على خَشَبَةِ" العار) ويَحتمِلَ كلَّ شيءٍ باختِيارِه وهوَ المُنَزَّهُ عَنِ الخطأ، لِيَهَبَ لِلجميعِ القيامةَ من بين الأموات" . وإذ يتَساءَلُ بَعضُنا: "لماذا الشعبُ الكاقِر (...) حَكَمَ بالموتِ على حَياةِ الكُلّ"، وحَسَبُوهُ "فاعِلَ شَرّ بين فاعِلي الشُرور"، نجِدُ الإجابَة في ما يَأتي: "لِكَي تُبَرِّرنا أيُّها المسيح من شُرورِ المُتَمرِّدِ القَديم". أَوّاه! "يا لهُ من جَهلٍ . يا لَقَتلِ المسيح، مِن قاتِلي الأنبياء"! (متَّى 23: 37-38). أمَّا نحنُ الأوفِياء، فَلَا يَسَعُنا سِوَى الهُتاف: "يَا لَلعَجَبِ العَظيم!" .
وَفي وسَطِ كلِّ هذا النُكران، يَقومُ مَن يَعترِفُ لِـ"حَياةِ الكُلّ":
- بِدءًا من الجحيم التي صرَخَت: "اليومَ تلاشَى سُلطاني، لأنّي تقبَّلتُ مَيتًا ... فلَم أَستَطِع قَطُّ أن أَضبُطه، بل فقَدتُ معَه الذين كانوا تحتَ سُلطاني" .
- كذلِك"إنَّ يوسُف الذي مِن الرَّامَة (...) معَ وجَلِه، هتفَ لكَ بِفرَحٍ: المجدُ لِتنازُلِكَ يا مُحِبَّ البشَر" .
- ورَسُولُ الأُمَم نادى: "لا أَعرِفُ بينَكم شيئًا إلَّا يسوعَ المسيحَ وإيَّاهُ مَصلُوبًا" (1 قورنتُس 2: 2).
- وبَعضٌ مِنَّا يَصرُخ: "قُمْ يا اللهُ واقْضِ في الأرض. فإنّكَ أنتَ تَرِث جميعَ الأُمَم" لأنَّك "تَعمَلُ" على إنهاءِ الظُلم ومُحاباة الوُجوه، وتُنصِف اليَتيم والفَقير والمِسكين والبائس وتنجِّيهم من يَدِ الخاطىء أو الشِرِّير. ويُضيف هؤلاء: "أيُّهَا المسيح . إنَّ المُكَبَّلينَ بِسَلاسِلِ الجَحيم، لمَّا لَحَظُوا حُنُوَّكَ الذي لا قِياسَ لهُ. هرَعُوا نحوَ النورِ راقِصينَ على قَدَمِ السُّرور، مُصَفِّقينَ لِلفِصحِ الأبَديّ".
2. كَيانُ الأبارتهايد والإبادَة
هل عَبَرنا (فَصَحْنَا) مع المسيحِ يسوع باتِّجاهِ أخواتِنا وإخوَتِنا-قِبلَتنا في الحياة، عامِلين معَهُ على تحريرِ المُقَيَّدين بسلاسِلِ العُبودِيّات المُتعدِّدَة (لوقا4: 16-22) التي تُحوِّلُ حياتَهم إلى جَحِيم؟
هل "نزِلنا معهُ (ومِثلَه) إلى أقصى أسافِلِ الأرض، (حيثُ) حطَّمَ المَتارِسَ الدَهريَّةَ الضابطةَ المُقَيَّدين"، لِنُشارِكَه تَحريرَ أحبَّائِه "هُنَا والآن" وفي القابِلِ من الأيّام؟
قَبل تسليمِه إلى أيدي الخطأة ليُحاكِمُوه ويُدِينُوه "ويَقتلونه"(متّى 20: 18-19؛ مَرقُس10: 33)،
وفي ذُروَة حبَكَة لُعبَةِ تَسلِيمِ يسوع إلى رُؤَساء كهنة اليَهود والكتَبَة، وفيما يُكلِّمُ المُعلِّم الإثنَي عشَر عمَّا ينتَظِرُه (مَرقُس 10: 33) ، كان عددٌ من التلاميذ مَشغولين بالسُلطة: يوحنّا ويعقوب ابنَا زبَدَى -بِتَحرِيضٍ من أُمِّهِما- أرادا أن يَجلس أحَدُهما عن يَمين يسوع والآخَر عن يساره في مَجدِه (مَرقُس 10: 37؛ متّى 20: 20-21)، بالإضافة إلى يهوذا (متَّى 26: 15) مُسلِّمِه.
أَلَا يقولُ المثَل: "الإنسانُ ابنُ بيئَتِه"؟
بَعد القِيامة، بَقِيَ الهاجِسُ يُراوِدَهُم، ولكِن هذه المَرَّة جَماعِيًّا وبِبُعدٍ قَومِيٍّ: "يا ربُّ، أَفي هذا الزَمان تَرُدُّ المُلكَ إلى إسرائيل" (أعمال 1: 7؛ مزمور 18: 47)؟ تلاميذُ يسوع كانوا تحتَ سَطوَة فكرة "شَعبُ اللهِ المُختار"المُستَنِدَة إلى إيديُولُوجِيَا: "لأنّكَ شعبٌ مقدَّس للربّ إلَهِك، وقد اختارَك الربُّ لكي تكونَ لهُ شعبًا خاصًّا فوق جميعِ الشعوبِ الذين على وَجه الأرض"(تثنيَة الاشتِراع 14: 2 و 7: 5-9). إذَن، لم يَختَلِف تلاميذُ يسوع الناصِرِيّ إيديُولوجِيًّا عن مُواطِنيهم إلَّا بعد بُرهَة، بَعد نَيلِهم الروح القدُس في العَنصَرة. هُم اعتَقَدوا مِثل أبناءِ جِلدَتِهم أنَّ مَملكَةَ المسيح مِن هذا العالم، وتَبَنّوا معَهُم جهارًا هذا الإعلان: "اللهُ هوَ المُنتقِمُ لي، ومُخضِعُ الشعوبِ تحتي"(مزمور 18: 47).
إنَّ "مصطلح الشعب المختار ، ترجمة للعبارة العبرية *هَعَم هَنبحار*. وهنالك معنىً آخر للاختِيار، في عِبارةٍ مِثل: *أتَا بْحَرتانُو*، والتي تَعني اختَرتَنا أنتَ، و*عَم سْجُولاه*، أي الشعبُ الخُلاصَة أو *عَم نَحلَاه* أي شعبُ الإِرْث. ويُؤمِن الكثيرُ من اليَهود بأنَّهُم شعبُ الله المُختار. وهذِه المَقولَة تُشَكِّلُ لَبنَة أساسيّة في الفِكر الدِينيّ اليَهودِيّ، وهيَ تَعبيرٌ آخَر عن النَسْج الحُلُولِيّ الذي تَشَكَّل داخلَ التَركيب التَراكُمِيّ لِلدِيانة اليَهوديّة. الثالُوثُ الحُلُولي مُكَوَّنٌ من: "الإلَه، الأرض والشَعب" فيَحلُّ الإلَه في الأرض، لتُصبِح أرضًا مُقدَّسةً ومًركزًا لِلكَون، ويَحلُّ في الشَعب ليُصبِحَ شَعبًا مُختارًا، وأزَلِيًّا. ولِهَذا السبَب يُشارُ إلى الشَعب اليَهودِيّ بأنَّه *الشَعب المُقدَّس* و*عَم عُولام* أي شَعب الكَون، و*عَم نِيتْسَح*، أي الشَعب الأبَدِيّ"، بحيثُ يكون الاختيار "تكليفًا إلَهِيًا مُحَمَّلًا بِالمَسؤوليّات والأَعبَاء وليسَ مِيزةً بِحَدِّ ذاتِها فقَط" . من زاويةِ الدِّين اليَهوديّ، هذا "الاختِيارُ لم يكُن مَشروطًا ولا سبَبَ لَه، فهوَ من إرادةِ الله التي لا يَنبَغي أن يَتساءل عَنها أيُّ بشَر"، يقول الرابِّي "راشي" "الذي كانَ مُتأثِّرًا بالفِكر الإقْطاعيّ الغَربيّ. فالاختِيار هُنا أمرٌ مَحتُوم، وعلى العَبدِ الانصِياع لَه، وهوَ سِرٌّ من الأسرار..." . وقَد ذهَبوا إلى أبعَد إذ اعتبَروا أنَّ"اللهَ هو الذي اختارَ الشعبَ اليَهوديّ، والاختِيارُ مُلزِمٌ لهُ هوَ وحدهُ ولَيس مُلزِمًا لِلشَعب". وكانَ لفِكر "القَبالَاه" بالِغ الأَثَر حيثُ "حوَّلَت الشَعبَ اليَهوديّ من مُجرَّد شعبٍ مُختارٍ إلى شَعبٍ يُعَدُّ جِزءًا عُضوِيًّا من الذَاتِ الإلَهِيَّة*الشخيناه* (أي التَجسيد الأُنثَوِيّ للحَضرَة الإلَهِيّة حسَب العَقيدة اليَهوديّة) التي تَجلِس إلى جِوارِه على العَرش وتُشارِكُه السُلطة".
أمَّا "شعبُ الله المُختار أو «شعبُ الإِرْث» أو «شعبُ الخُلاصَة»" فيَنظُر إلى "الأُمَم" أو الـ"غُويِيم"(أي المُغايِر) التي يَختلِف معَها وعَنها على أنّها "حَيَوانات بشَريّة". وقد كرَّر هذه المَعزوفة عددٌ من زُعَماء الكَيان الصهيونيّ اليوم ضِدَّ ناسَ فلِسطين خِلالَ العُدوان على غزّة. وهذا الوَصف يَدخُل في صُلْب العقيدة التَلموديّة: "نَقَلَ الرابّي موسى بن نعمان هذه العبارة في كتابه: ترتَّبَت الأعياد لكُم، وليسَت لِلأجانِب ولَا لِلكِلاب" (صحيفة 50.4). ألَيسَ هذا ما جاءَ على لِسان يسوع لِلمرأة الكَنعانيّة التي ذكَّرَها بنَظرَة اليَهود إلى "الأُمَم" حيث قال: "ليسَ حسنًا أن يُؤخَذَ خُبزُ البَنين ويُطرَح لِلكِلاب" (متّى 15: 26)؟! وقد أَورَدَ مَوقِع "صحافة 24"، نَقلًا عن كتاب عُمَر مصالحة، أن "حَفَلَ «التلمود» بالأحكام التَميِيزية ضِدَّ الأغيَار(الغُويِيم)، وقد نادَت بعضُ هذِه الفَتاوَى بالاستِيلاء على أموال الوَثنِيِّين وعدَم تَقديم أيِّ نوعٍ من أنواع المُساعدة إلى غير اليَهود ، بل وصَل الأمرُ إلى اعتِبار مَهمَّة الأغيار في الحَياة هيَ خِدمة اليَهود في الأرض، إذ خُلِقَت الدُنيَا من أجل اليَهود وَحدهُم" : "يكونُ المُلوكُ حاضِنيكِ وسَيِّداتُهم مُرضِعاتِكِ. بالوُجوهِ إلى الأرضِ يَسجُدونَ لكِ، ويَلْحَسُونَ غُبارَ رِجلَيكِ، فتَعلَمِينَ أنّي أنا الربُّ الذي لا يَخْزَى مُنتَظِروهُ"(أشعيَا49: 22-23). كَما "عزَّزَت فكرةُ الاختِيار أيضًا الإحساسَ الزائفَ لأعضاء بَعض الجَماعات اليَهوديّة بِوُجودهِم خارِج التاريخ، وبأنَّ القَوانينَ التاريخيّة التي تَسرِي على الجَميع لا تَسرِي عليهِم". وبَرهَنَت الوقائع هذا الكلام في إطار رفض امتِثال الكَيان الصهيُونيّ لِما صدَر عن مُنظَّمة الأُمَم المتَّحدة ومجلس الأمن من قرارات، وبما قابَلهُ من تَحَدٍّ صهيونيّ لَها منذُ احتلالِ فلِسطين سنة 1948 وحتَّى الساعة. ذاك الإحساس يُبَرِّرُه اثنان:
- المُفكِّر الصهيونيّ الاشتِراكي نَحمان سِيركِين حيثُ يَعتبِر أنَّ "اليهودي الپْرُولِيتارِيّ الأزَليّ اخْتِيرَ مُنذ القِديم ليُؤَدّي رِسالتَه الأزليّة الاشتِراكيّة، ورِسالتَه الديمُقراطيّة اللِّيبِراليّة في هذا العالم".
- بِنْ غُوريُون ، رئيسُ الحكومة الأول للكَيان الغاصِب القائل: "إنَّ دولة إسرائيل تضُمّ الشَعب المُختار، وبِوُسْعِها أن تُصبح مَنارةَ جَميع الأُمَم".
قد تَستَغرِب ايُّها القارىء ما تقدَّم، لكِنك إذا عرَفتَ أنَّ "اليَهودِيُّ، وفقًا لِتَعريف المُؤسَّسة الحاخاميّة، هوَ الشخص الذي وُلِدَ لِأم يهودية. أمَّا مَن يَعتَنِقون الدِيانة اليَهوديّة مِن غَير اليَهود فهُم في «الدرَجة الثانيَة»، والذين يُطلَق عليهِم «مِتجِيريم». وبِذلِك لا تَجعلُ ولادةُ طِفل، لِأَبٍ يَهودِيٍّ وأمٍّ غيرِ يَهوديَة، مِنهُ يَهوديًّا. كَما لا يَرِثُ هذا الطِفل الدِيانةَ اليَهوديّة بالوِلادة، بَل عليه أن يتَهَوَّد فِي ما بعد، وعمليّةُ التَهوِيد ليسَت سَهلةٌ على الإطلاق" . لكن تِلك نَظرة ليست نظرة كلّ اليَهود إلى غَيرِهم من الناس، إذ "تَخلَّت بعضُ الحرَكات اليَهوديّة التَنوِيريّة والإصلاحيّة عن تِلكَ النَظرَة التَميِيزيّة؛ ورأَت أنَّ «الاختِيارَ الإلَهِيَّ» ليسَ سِوَى حَمل الرِسالة الإلَهِيَّة، وأنَّ تَشتِيت اليَهود في الأرضِ هوَ عقابٌ لهم، ولِيَنشُروا رِسالتَه ويُصبِحُوا أداتَه في تَحقيق السَلام والخَلاص.
النَظرة العُنصُرِيَّة المُتَطرِّفَة ليسَت مُوحاةً من الله -الذي يَرفُضها قَطعًا- وهذا ما عبَّر عنهُ عاموسُ النبيّ إذ قال: "إيَّاكُم عرَفتُ من جميعِ قبائلِ الأرض، لذلكَ أُعاقِبُكم على جميغِ ذُنوبِكُم" (عاموس3: 2). لأنَّ اللهَ هوَ الدَّيَّان بحسَب الفِكر الدِّينيّ اليَهوديّ، فسَيَحكُم عليهِم ويُدين الظُلم والمَجازِر والسَيِّئات التي ارتَكبُوها بِحَقِّ الناس الذين تعرَّضوا لِشُرورِهم عَبر التاريخ، وتَحديدًا على الفظائع التي تَجري على أيدِيهم في غزَّةَ الآن وفي كلِّ مطرَحٍ آخَرَ من الأرض.
*قِبلةٌ ومَسار
لقد عاني يسوعُ غالِبًا من قِلَّةِ فهمِ تلاميذِه: "أيُّها الجيلُ غيرُ المُؤمِن، الأَعوَج، حتّى متى أكونُ معَكُم، وحتَّى متى أَحتَمِلُكم؟" ( متّى17: 17) . لِذا جاءَ جوابُه على طمَعِ التلاميذ بالسُلطة والتسلُّط كالآتي: "ليسَ لكُم أن تَعرفوا الأوقاتَ والأزمنة التي جعَلَها الآبُ في سُلطانِه الخاصّ" (أعمال1: 8). ولأنَّ "مَملكتَه ليسَت من هذا العالم" ( يوحنّا18: 36) ولا يَحفَل بِسُلطانٍ سياسيٍّ وعُنصُرِيٍّ (نظام الأݒارتْهَايْد)، كلَّمهُم أثناء حياتِه معهُم أنَّ "كثيرين يأتونَ من المَشارِقِ والمَغارِبِ ويتَّكِئون ... في ملكوت السمَوات" (متَّى 8: 11) لِيَفهموا ماهيّةَ مَلكُوتِ الله، غيرَ أنّهُم وصَلوا متَأخِّرين ، إلَّا أنَّ الأمرَ جاءَ خَيرًا، لهُم ولنا.
كان يسوعُ "النورَ الحقيقيَّ الذي يُنيرُ كلَّ إنسانٍ آتٍ إلى العالم" (يوحنّا 1: 9)، كَي "لا يجلس في الظُلمة كلُّ مَن يُؤمن بهِ" (يوحنّا 12: 46) بل يكون "نُورًا لِلعالم" (متَّى5: 14). لكن كثيرين آثَروا البقاء في الظُلمَة "لأنَّ أعمالَهم كانت شِرِّيرَة" (يوحنّا 3: 19). وبالرغم من أنَّ يسوعُ "كانَ في العالم والعالمُ بِه كُوِّن والعالمُ لَم يَعرِفْهُ. وأتى إلى خاصَّتِه وخاصَّتُه لم تَقبَلهُ" (يوحنّا 1: 9-10)، فقد آثَرَ أن يكون إلى جانِب الجميع من دون استثناء."أمّا الذي قبِلُوه فأعطاهُم سُلطانًا أن يكونوا أبناءَ الله" (يوحنّا1: 12). يا لَهذا الشرَف الكبير!
حصَلَ هذا كلُّه لأنّ "النِعمةَ والحقَّ بيسوع المسيح قد حَصَلَا" (يوحنّا 1؛ 17). نعَم، "لقَد ظهَرَت نعمةُ الله المُخلِّصَةِ جميعَ الناس" (تيطُس 2: 11) لِنَحيَا "في الدَهرِ الحاضِرِ على مُقتَضى التعفُّل والعَدلِ والتَقوَى" (2: 12)، لِنكونَ "شَعبًا خاصًّا غَيُورًا على الأعمال الصالحة"(تيطُس 2: 14)، يَستَطيعُ أن يُجاهِر صارِخًا: "يا ما أَلَذَّ، يا ما أَحَبَّ، يا ما أَعذَبَ صَوتَكَ الإلَهِيّ أيُّها المسيح" . هذا الصَوت إذ وَصَلَ "إلى المُكَبَّلِين بِسَلاسِلَ الجَحيم. لَحَظُوا حُنُوَّكَ الذي لا قِياسَ لَهُ، فَهرَعُوا نَحوَ النُّورِ راقِصينَ على قَدَمِ السُّرور" ، مُعلِنينَ: "اليومَ يومُ القِيامَة. فَلنَتفاخَر بالمَوسِم. وليُصافِح بَعضُنا بعضًا. ولنَقُلْ يا إخوَة: لِنَصفَح لِمُبغِضينا عن كلِّ شيءٍ في القِيامَة" .
هذا في المُطلَق، أمَّا على أرضِ الواقع، فما الذي يُؤتِيه كلٌّ مِنَّا؟
بَقِيَ الرُسُلُ مَهجُوسين بالمُلْكِ و"الخلاص" عَبرَ "مَسيحِهم"-الزعيم السياسيّ ومَعهُ، ذاكَ "المسيحِ" الذي سيُطيح بالرومان ويَجعلُ اليَهود يَحكمون العالم بدَلاً من المُحتَلّ الأجنبيّ. هذا الهاجِس يَستَمِرُّ مُهَيمِنًا إلى الآن، حيث يُقتَل -باسمِ الله وشَعبِه المُختار- الأطفالُ والنِساءُ والرِجالُ لا سِيَّما في غزَّةَ، وفي كثيرٍ من مطارِح الأرض، بِمُختَلَف أنواع الأسلحة الفتَّاكة، ومن خلال مَنْع المأكَل والمِياه والدواء والاستِشفاء ونَحْرِ الطبيعة بالتَلويث -بكلِّ أشكاله- وإغراق الدُوَل الفقيرة بالدُيُون وسَرِقَة ونَهْب خَيرات وآثار وثَروات دُوَل عديدة.
ماذا قالَ يسوع للتلاميذ الذين يُؤرِقُهم استِعادة "المُلْكَ لِإِسرائيل"؟ فَبَعد أن أوصاهُم ألَّا يَبرَحُوا من القُدس، قال لهُم: "انتَظِروا مَوعِدَ الآبِ الذي سَمِعتُموهُ مِنِّي". وما هوَ هذا "المَوعِد"؟ إنَّهُ الروحَ القدُس الذي "سيُعَمَّدونَ بِه بعد هذهِ الأيَّامَ بِقليل". الروحُ القدُسُ سيَهَبَهُم "قوّةً" بِحُلولِه عليهِم يومَ "العَنصَرة" لِيَكونوا لِيَسوعَ "شُهُودًا ... إلى أقصى الأرض": "تَبعَثُ رُوحَكَ فتُخلَق، وتُجدِّد وَجهَ الأرض" . لا نتَحدَّث هُنا عن غَسْلِ أَدمِغَة أو عن رُوبُوتات مُبَرمَجَة (AI) بل عن أُناسٍ وُلِدُوا جديدًا، "وُلِدوا من فَوق" (يوحنّا3: 3)، أي وُلِدوا "مِن الماء والرُوح" (يوحنّا4: 5-7). أُناسٌ "صار فيهِم مِنَ الأفكار والأخلاق ما في المسيحِ يسوع" (فِلِپِّي 2: 5)، فيَتحَوَّل معهُم المُجتمَع إلى واحةِ سلامٍ وبُنيان ونَماء مُستَدام في عالمٍ حَوَّلناه إلى صحراء قاحِلَة "إنسانِيًّا".
أمَّا نحنُ فنَقولُ لِيسوع: "أيُّها المسيحُ الفِصحُ الكبيرُ الأشرَف. يا حِكمةَ اللّهِ وقُوَّتَهُ وكلِمَتهُ. أنعِم عَلينا أن نُشارِككَ أكملَ مُشارَكة، في نهارِ مُلكِكَ الذي لا مَساءَ له". سنُشارِك يسوعُ -"حِكمةُ الله" بِحِكمَتِه لا "بِحكمة هذا العالم"(1قورنتُس 3: 19) التي تُحسَبُ "جَهالة" لِتخَلِّيها عن القِيَم. وستَكونُ لنا شرِكةٌ معهُ "بِقُوَّتِه"، أي بِرُوحِه القدّوس الذي يُقَوِّينا "في الخدمة، في الانتِصار على الشُرور (المُحيقة بِنا)، في تحمُّل الشدائد والضيقات؛ قوّةً في الصلاة، في الإيمان، في عدَم الخَوف" ... إذ قيل: "ملكوتُ اللهِ قد أتى بِقُوَّةٍ" (مَرقُس: 1).
يسوع أكَّدَ لنا: "أنا معكم إلى انقضاء الدهر (متّى 28: 20).
فَشُكرًا يا يسوع على كلِّ ما صنَعتَهُ لِأَجلِنا "نحنُ مُسَبِّحيكَ عن مَعرِفة". لقد قُمتَ من بين الأموات، فَـ"لِقِيامَتِكَ أيُّها المسيحُ مُخَلِّصُنا (...) نحنُ الذين على الأرضِ (نُسَبِّح مع الملائكة)، فأهِّلنا أن نُمَجِّدَكَ بِقُلوبٍ نَقِيَّة" .