النهار

السعادة
ثمَّ ما ذنبي تُربكُنا الحياةُ بفلسفتِها الغامضةِ، ومعالمِها المتكسّرةِ، تارَةً تُبهجُنا أحزانُها وتارّةً تصفعُنا أفراحُها، ليست بالعبثيّةِ ولا العدميّةِ
A+   A-
ثمَّ ما ذنبي تُربكُنا الحياةُ بفلسفتِها الغامضةِ، ومعالمِها المتكسّرةِ، تارَةً تُبهجُنا أحزانُها وتارّةً تصفعُنا أفراحُها، ليست بالعبثيّةِ ولا العدميّةِ، إنّما أقدارٌ مرميةٌ في كلّ سبيلٍ نجوُل بهِ. تعتقدُ ذلك سعيداً ويا لها من ضحكاتٍ تُزيّنُ ثغرَهُ، وعندما تقتربُ أكثر تسمعُ عزفَ ثقوبِ قلبِه المؤجّجةِ بنيرانِ الخيباتِ، أمّا ذلك الذي حسبناهُ حزينًا يُفاجئُكَ بفسحةِ راحةٍ وسلامٍ داخليٍّ. لا تخدعَنَّكَ المظاهرُ، فرُبَّ ضجيجٍ خارجيّ داخلُه خاوٍ من المعنى والمبنى أو العكس، وبمجرَّد أن يصطدمَ الشخصُ بتجربةٍ واحدةٍ أمامكَ، تسقطُ أقنعتُه لتُزيلَ الغبارَ عن المعالمِ الحقيقيّةِ، وتكون المكافأةُ إمّا برفعِ أصحابِها على رموشِ العينِ، أو إعماءِ القلوبِ والعيونِ عنهم. مَنْ بَسَطتِ الحياةُ يدَها له لا ينبغي له السرورُ، فبعضُ السعاداتِ تقتحمُنا ككمائنَ وصدماتٍ تفتِك بنا، وكم كان الفستانُ الجديدُ والبرّاقُ فضفاضًا علينا ولم نستطعْ أنْ نملأَ زواياهُ بما يليقُ به. بعضُ النعمِ الصغيرةِ مشبعةٌ أكثر، أقلّه أنّها لا تُصيبُنا بداءِ التعجّبِ والكبرِ والتلوّثِ ببريقِها الزائدِ. قالتِ القصيدةُ يومًا لي: "يا صغيرتي، يكفيكِ أن تكوني أنتِ، حذاؤك البسيطُ يستطيعُ أنْ يسيرَ إلى الحلمِ بسرعةٍ أكثر من الكعبِ العالي، ومستحضرُ التجميلِ السحريُّ في المستقبلِ القريبِ سيتركُ مخلّفاتٍ وندوبًا لستِ مضطرّةً لحملِ أثقالِها". بعضُ الحكاياتِ كُتِبَ لي أنْ أحياها لحظةَ موتِها، ولا أدري لماذا الطيّبون همْ أكثرُ الضحايا. صديقتي في آخرِ حديثٍ اعترفَتْ لي أنّها لم تجدْ قلبًا أبيضَ وطاهرًا كقلبي، وأوصتْني أن أبقى أنا، هل عَلِمَتْ صديقتي كَمَّ التلوّثِ الداخليِّ الذي أحدثتْهُ لي هذه الطيبةُ، هل أحصَتِ الدمعاتِ وحرقاتِ القلبِ، هل داست على الإبَرِ فوقَ ركامِ الشوكِ في سبيلِ تضحياتٍ لا يستحقُها أصحابُها. حاولتُ إحصاءَ الخيباتِ فانتهى مشهدُ العدِّ بوعكاتِ حنينٍ لما قبلَ بدايةِ حفلةِ الجلدِ، هل تتشفّعُ لنا هذه الوعكاتُ أمام جلّادينا ومَن يكترثُ لأشلائِنا؟ لا أدري ما الحكمةُ من كل هذا، نكذبُ على أنفسِنا عندما نقولُ: تجاربُ نتعلّمُ منها، عندما نطبطبُ للمرّةِ الأولى بعدَ الألفِ على سيولِ الدمعِ ونقولُ بملءِ الصمتِ لها أنَّه مِنْ رَحمِ الآلامِ لا بُدَّ لإبداعٍ لقيطٍ أنْ يُبصرَ الحياةَ ولو متأخّرًا، ما ذنبُ الأبرياءِ، ما ذنبُ الطاهرينَ، ما ذنبُ كريمي الإنسانيةِ ليموتوا ولو بجرعةٍ صغيرةٍ من سُمِّ غدرِ البشرِ. كتبتُ قصيدةً سردتُ بها كلّ الحكايةِ، وضّحتُ بها كلّ المعاني، حتّى اللامعنى جعلتُ له معنى، لكنّ ساعي البريدِ فَتَكَتْ بهِ الحضارةُ المستحدثةُ ورحلَ إلى الأبد. في آخرِ شطرٍ مِنَ القصيدة، سمعتُ الصمتَ يصرخُ ويجهشُ بالحسرةِ: "ثمّ ما ذنبي في كل ما جرى؟"

الكلمات الدالة

اقرأ في النهار Premium