"تفتحت فيّ رغبات المراهقة فخسرت جسدي وإرادتي وقراري وحركتي، ودخلت في دوائر الخوف والهزال.
سلبوا مني كل شيّ، حتى الأمل في الغد، وما تركوا لي إلا رغبتي في الموت. اندفعت إلى حضن الموت أبارك له إيماني بلا شيء إلا هو. لكنهم كانوا بيني وبين الموت. منعوني من اختيار العدم الحقيقي، وأبقوني في عبثية عدمهم. كلما فررت من قفص أدخلوني في آخر.
أعرف جيداً الاحتراق، وأعرف كيف أكوّم رمادي بعضه فوق بعض، وأتقن فن إشعاله من جديد".
هكذا تبدأ الروائية الأردنية، عفاف البطاينة روايتها "خارج الجسد" التي صدرت طبعتها الثالثة عن دار الساقي عام 2010.
اختارت البطاينة أن تطرح على بساط البحث الروائي، وبجرأة عالية المنسوب، معاناة الأنثى في محيط يتسم بذكورية صارخة، ويستمد أفراده حضورهم من مقدرتهم على مصادرة أحلام وهواجس شريكاتهم المفترضات في عملية البناء الإنساني.. ما يمكن إبرازه كأحد الخطوط العريضة للرواية هو ذلك الجنون العذب الذي يثيره الأمل في بعض النفوس المختزنة لسمات التمرد، فيقودها نحو اجتراح معجزات ممتعة، وإن كانت متواضعة، معجزات تتجلى في الرواية من خلال إصرار سيزيفي مدهش على حمل صخرة الانتساب الأنثوي إلى المعترك الآدمي بالرغم من معوقات كثيرة، وبالرغم من الرسوخ التاريخي للسطوة الذكورية على القمة المفترضة، سطوة زائفة تدفع رجالاً مثقلين بأعباء الماضي إلى تحصين مواقع امتيازاتهم الموهومة بكل ما يحيط بهم من تقاليد وأسانيد وسلوكيات معظمها واهم ومصطنع، يحدث كل ذلك بوحي من هدف محوري، يستند إلى الرغبة الغريزية في إقصاء الأنثى عن موقعها البديهي والطليعي على خارطة العيش...
هي منى، فتاة الريف التي تستجلب غضب الطبيعة البشرية الخشنة جراء محاولتها الساذجة للإصغاء إلى همس القلب المتعب وسط منظومة مشرعة من الظلم الاجتماعي، ظلم مقونن يحيل كل ما يلمسه إلى ظلمة دامسة... أمَّا الحل الذي تقترحه الرواية فهو إشعال النار في جسد الأمس الذي يرفض أن يصير أمساً، ويصر على مصادرة اليوم وإخضاع الغد، متنكراً لأبدَه معادلات الزمن ونواميسه...
الحدث المدخل، الذي سعت الروائية إلى تزخيم نصها من خلاله، يتمثل بمشهد الأب، الرمز الأنقى للهيمنة الذكورية، مسجى على فراش الرحيل، في إشارة لا تحتمل اللبس إلى انهيار بنيوي في منظومة السلطة المتحكمة بسيرورة الأحداث.
بكثير من التصميم والصبر والكدمات أيضاً، بنت منى استراتيجيتها في الخروج من سجل الإحصاء، ولم تتردد في قبول الزواج من عريس الصدفة التي وضعتها الأقدار في مرمى غرائزه، أملاً منها في أن يكون السجن الزوجي هو نفق الخروج من سجن العائلة الممتدة إلى حدود العشيرة حتى يصير بوسعها القول إنَّها أحدثت فجوة مرشحة للاتساع في جدار السيطرة المتأصلة والمتواصلة بين حراس الهيكل الأنثوي من الرجال المعتدين بذكورة لا تعكس سوى الضعف... رحلة طويلة وشاقة كانت بانتظار بطلة الرواية التي لم تغب عن مسرح الأحداث لحظة، رحلة مقرونة بالكثير من الجهد والسعي كان عليها أن تخوض غمارها، لتتحرر من اسم علق بها كالوشم، ومن كونها مجرد ضلع ذكوري أعوج يحتاج إلى تقويم دائم، فإذا استعصى لا يبقى أمامه سوى الكسر... أيضاً كان على الكاتبة أن تهيل الكثير من رماد الأحداث فوق مسار بطلتها حتى أمكنها أن تدفن تحتها ملامحها المتوارثة، لتطل أخيراً على مسقط رأسها (مذبح إنسانيتها بالأحرى) تحت اسم وهيئة سارة الكزاندر، المثقفة البريطانية التي يحتفي بها الناس في أرض المنشأ بوصفها نتاجاً آدمياً للبلاد المتطورة يستحق الاحترام، ويفترض حسن الإصغاء.
ما يربط بين الرواية موضوع البحث وبين "ع أمل" المسلسل الدرامي المنافس على الصدارة في الموسم الرمضاني الحالي ليس مجرد تشابه عابر. ثمة تقارب يدرك حدود التماثل بين جوهر السياق السردي في المنجزين. هناك إمرأة تتعرض للاستباحة من محيطها الذكوري لكنها تأبى الاستسلام وتقرر خوض المواجهة غير المتكافئة. هناك أيضاً قدر هائل من الذكورية المتفلتة من كل قيد تنظر إلى الجانب الآخر من الخارطة الجندرية بوصفها ملحقاً يجدر به أن يعيش تحت سطوتها أو أن يموت دون أن يتحسر عليه أحد. المساران أيضاً يكادان يكونان واحداً: تغيير الإسم وتبديل الملامح، وامتلاك وسائل المواجهة التي تتيحها معايير القوة المهيمنة. تذهب منى نحو الجنسية البريطانية والعمل في المنظمات الدولية لتصير "سارة"، فيما تحتمي سهاد بالغطاء الإعلامي لتتحول إلى "يسار". ثم تعود الإثنتان إلى ماضيهما المثقل بالقيود والأحقاد لتسجل كل منهما انتصارها المستحق على بيئة معادية للقيم الإنسانية المكونة للحياة بشكلها النقي وصورتها الخالية من الزيف.
بدأت البطاينة روايتها بموت الأب. ومن المتوقع للتناغم المستوحى، أو لتوارد الأفكار المتجاوز للحدود، أن يدفع "كاتبة" المسلسل نادين جابر لأن تختم حلقاته بموت "سيف" الأخ الدموي الذي يحمل الكثير من سمات اسمه. هذا ما يقتضيه السياق المنطقي لعملية الاقتباس التي رفض المسلسل الإقرار بها مع أنها كان يمكنها أن تمنحه مشروعية في عيون مشاهديه، وأن تعكس إقراراً مرحباً به بكون الغايات السامية يحتاج تحققها إلى أناس يضاهونها سموّاً...
من المؤسف حقاً أن يسعى البعض لبناء مجده في أمكنة يملكها سواه. والأكثر إيلاماً أن ينجح في ذلك.