يُروى أنه في بلدي "لبنان" والذي كان يُعرف بـ"سويسرا الشرق"، كان اللبنانيون ينعمون بما لذّ وطاب، حيث كان الباسبور والعملة اللبنانية في المرتبة الرابعة عالمياً، فكان اللبناني يدفع بعملته الأم أينما ذهب في أي دولة في العالم، وكانت كبرى الدول تلتجئ إليه لتستدين منه حيث كنا نتمتع بثاني أكبر احتياطي ذهب في العالم وعاش القطاع المصرفي عصره الذهبي وتميّز مركز لبنان المالي بقوانين حفظ السرية المصرفية، ما جعل لبنان يزدهر اقتصادياً، سياسياً واجتماعياً... بلغت قيمة الليرة اللبنانية آنذاك مقابل الدولار "3,3" ليرات لبنانية.
لا بدّ أن نذكر أيضاً النمو السياحي الملفت حينها، فكان حلم كل عربي أن يكون لبنان مصيفه حيث تكثر المهرجانات والطقس الرائع والجمال الخلاب، فأصبح مزاراً سياحياً ينجذب إليه أعداد ضخمة من السياح العرب والأجانب.
أتت الحرب الأهلية في العام المشؤوم 1975 وألقت بظلالها على الوضع العام، فأصبح وطننا ساحة معركة لأطراف عدة من كل حدب وصوب فقضوا على مشروع الوطن وأسفرت عن مقتل نحو 150 ألف شخص فضلاً عن أكثر من 17 ألف مفقود. ومن أخطر ما نتج عنها التهجير والفرز الديني والمناطقي، كما قُدّرت خسائر الحرب بنحو 25 مليار دولار أميركي.
وبدأ الانهيار...
بدأت ملامح الأزمة بالظهور في خريف 2019، بعد سلسلة التظاهرات التي طالت غالبية المدن والقرى احتجاجاً على الأوضاع، ولكن ما لم يكن في الحسبان أن الأوضاع ستزداد سوءاً على كافة الصعد؛ فالمصارف أقفلت أبوابها وتوقفت عن إعطاء المودعين ودائعهم وفرضت قيوداً صارمة فأصبحت أموال المواطن الذي كان يعتقد أنه يحميها من السرقة في المنزل بيد زمرة من الفاسدين، فسرقوها وأصبح المواطن مُعوَزاً، فقيراً، يُطالب برزقه ولا يستطيع الحصول عليه أو يحصل عليه بـ"القطارة".
وتابع الاقتصاد اللبناني انهياره مع تدهور العملة الوطنية، ما أفقدها قيمتها بشكل نهائي لتصل وتستقرّ على 90 ألف ليرة للدولار الواحد حالياً، بعدما كانت 1500 ليرة لبنانية قبل 2019، وهذا ما تسبب بتراجع القدرة الشرائية للمواطنين بشكل ملفت، فأصبح لا يستطيع شراء إلا احتياجاته الأساسية ولكن بعد إذلاله.
نعم إذلاله، فهو ينتظر في الطابور لأكثر من 4 ساعات لتأمين خبز لعائلته، أما لتعبئة المحروقات فيبيت ليلته في سيارته بقرب محطة الوقود.
أما بخصوص الاحتكار وغلاء الأسعار فحدّث ولا حرج...
كل تاجر يبيع على هواه حيث لا حسيب ولا رقيب والمواطن يقف مكتوف اليدين لا حول له ولا قوة حيث يحاول التأقلم مع الواقع الجديد المرير الذي لا يشبه معيشته قبل نحو 4 سنوات فبات يعتمد على مهنة أخرى بالتوازي من أجل تأمين أبسط مقومات العيش الكريم. فأصبح هذا المواطن التعيس الذي كان ينعم ويعيش داخل "جنة" لا يعلم قيمتها، يعافر في حياته وداخل دوامة لا يعلم نهايتها أو كيفية الخروج منها متخلياً عن كمالياته ومركزاً على أساسياته التي باتت يستحيل تأمينها لقسم كبير من الناس.
انقسم لبنان إلى طبقتيْن: الغني جداً والفقير جداً، أما الطبقة الوسطى فتقلّصت نتيجة التضخم الحاصل. الطبقة الغنية لا يهمها ما يحصل في البلاد وتتمتع بما تجنيه من أموال، أما الطبقة الفقيرة فتعاني الأمرّيْن وليس بمقدورها إطعام نفسها.
لنغوص أعمق ونتحدث عن أزمة الدواء، حيث تراجع استيراد الأدوية بشكل كبير فتحوّل البحث عن الدواء إلى عادةٍ يوميةٍ لآلاف اللبنانيين في ظل نفاد مخزون مئات الأدوية. أما إذا توافر القليل من أدوية الأمراض المستعصية أو حليب الأطفال فيتم احتكارها لبيعها في السوق السوداء بسعرٍ مضاعفٍ.
وفي الشأن نفسه، تعاني المستشفيات من عجز في صناديقها نتيجة عدم سداد الحكومة مستحقاتها، ما يجعلها عاجزةً عن تقديم الجراحة المنقذة للحياة والرعاية الطبية العاجلة للمرضى، فأصبح المواطن اللبناني يموت على أبوابها عاجزاً عن دخولها إلّا إذا دفع بالعملة الخضراء، ما يجعل من الاستشفاء حكراً على الأغنياء فقط. إضافةً إلى ذلك، اضطرّت المستشفيات إلى تقليل عدد الأطباء والممرضين والعاملين وعدم دفع مستحقاتهم.
وهنا نصل إلى أزمة البطالة، فغالبية الشباب اللبناني لا يعمل، وإذا وجدنا شاباً يعمل فيكون بالحدّ الأدنى للأجور أو أقلّ وهذا ما دفع أكثر من نصف الشباب للهجرة بحثاً عن مستقبل أفضل في بلدٍ ضاع الحلم فيه وأصبح أبناؤه غرباء فيه ولا قيمة لهم فما أصعب أن يشعر المرء أنه مهان في وطنه!
أصبح اللبناني عبارة عن جسد فقط يعيش ليأكل ويشرب كسائر الكائنات الأخرى، ما أفقده الإحساس بالوطنية وحب الوطن.
السلطة ورجالها هم وحدهم من أفسدوا ضمائر الكثير من أبناء هذا الشعب من أجل السيطرة عليهم حتى استعبادهم فأصبح ولاء المواطن لزعيمه وليس للوطن حتى لو كان زعيماً للفساد والسرقة. يؤسفني قول إننا "نبكي وطناً لم نعد ننتمي إليه".
فأنا الفتاة الطموحة التي لا تؤمن بالأحلام، حبذا لو استيقظ في يومٍ قريبٍ وأرى أبناء وطني مستيقظين من سباتهم العميق. وتتشابك الأيدي لنبني وطننا الحبيب الذي رغم كل علله أراه كحبة الماس تتلألأ في عين الشمس ويرجع درّة الشرق. فالشجرة حين نقلّمها تستعيد عافيتها لتعطي ثمارها. كذلك هو وطننا الغالي بلد الزيتون والسنديان والأرز الشامخ الذي ذُكر في الكتاب المقدّس "الصديق كالنخلة يزهو، كالأرز في لبنان ينمو".