جوهر الإنسان هو الحُبّ. إذ هوَ "صورة" (أيقونة) الذي أوجَدهُ في الحياة: "اللهُ الحبّ"( الذي بادَر إلى حُبِّنَا "أَوَّلًا".
من هُنا حبُّ الإنسان لِلبِرَّ -الذي يَستقي مِنهُ ماءً حَيًّا "يَصيرُ فيهِ يَنبوعَ ماءٍ يَنبُعُ إِلى ٱلحَياةِ ٱلأَبَدِيَّة"- وإقباله على كلّ ما هوَ صلاحٌ وحقٌّ وجمال، صانِعًا السلام. بل يرفُض الإثْم، ولا يَقربُه، حُبًّا بِنَفسِه وحُبًّا بالآخَر-شريكه في الحياة. لذلك، "يَمسَحُه ٱللهُ إِلَهُه بِدُهنِ ٱلبَهجَةِ أَفضَلَ مِن شُرَكائِه".
العطَشُ إلى الحبّ مُتأصِّلٌ في أعماق كلِّ إنسان: يُريد أن يُحَبّ وأن يحِبّ، وإلَّا أحَسَّ وكأنّهُ "في أرضٍ مُقفِرةٍ، لا مَسلَك فيها ولا ماء"، صارِخًا: "اللَّهُمَّ إلَهِي، إليكَ أبتكِر. عطِشَت إليكَ نفسي. كَم ظمئَ إليكَ جسَدي!".
لا يَروِي العطِش سِوَى الحبُّ الإلَهيّ اللَّامُتناهي. وَهذا ما شهِدت لهُ المرأةُ السامِريّة التي استَقصَد يسوع مُلاقاتِها على حافةِ بئرٍ عميقة وتاريخيّة، هي بئرُ يعقوب. "البئر العميقة" تَرمُز إلى عُمق العَلاقة التي اللهُ مُنشِدُها مع الإنسان. هيَ جلسةُ مُواجَهة لِلذات دَعا إلَيها يسوعُ المَرأةَ السامِريّةَ: "قدَّيشنا صُحبِة أنا وهَالبِير. عشَّاق نِحنا من زَمان كتير وغْماق. شُو في سْرار مُطوِيّة بِقلوبنا ودمُوع ومْشاوير. أنا وهَالبِير". وكأنّ يسوع قد تقصَّد اللِّقاء بطريقةٍ ما: ليسَ أنّه "تعِب من المَسِير" وحَسْب، وليسَ لأنّهُ كان بِأَمَسّ الحاجة لِيَشرب، بل لأنّه "سيِّد اللِّقاء". فَبِتواضُعٍ "يُتيح التواصُل بعُمق". طلبَ الماء "واضِعًا نفسه" ناقِلًا تلكَ المرأةَ -ونحنُ معَها- إلى عطَشٍ من نوعٍ آخَر، عطشٍ إلى "الماء الحَيّ"، ماء الصداقة:
- بين يَهُودِيّ وسامِريّة "هادِمًا الحاجز أي العداوة" بين إنسانٍ طاهِرٍ وآخَرَ نَجِس، وإنسانٍ يَزعَم أنّه من "شعب الله المُختار" وآخَرَ يجِده حقيرًا وعبدًا له؛
- وبين رجُلٍ وامرأة مُؤثِرًا الصداقة، ومَن يَستَهجِن لقاءهما لأنّه يُميِّز بين الجِنسَين؛
- وبين مَن يرى أن في هيكل أورشليم-القُدس يُسجَد لِلربّ وبين آخر يَعتقد أن في جِرِّيزيم ينبَغي السجود.
- وبَين مَن يَقبل شهادة امرأةٍ ومَن يَرفضها لأنّه لا يُصدِّق النساء.
- وبين مَن يَقبل يسوع ويَدعُوه ليُقيم عنده، ومَن يَطرُده خَوفًا من افتضاح كذِبه وزَيفه.
هكَذا حصلَ لقاءُ المُختلِفَين الجَريء والمُغْني لِلطرفَين: أكانَ بين ثَقافتَين أو بينَ جِنسَين. صحيحٌ أنّ السامِريّةَ تحفَّظَت نَوعًا ما لِلَحظات، غيرَ أنّها انْسابَت تَدريجًا في التواصُل. لم يُلقِ أحدُهما الحُرْمَ على الآخَر بِسبَب الاختلاف : "إنت مِش منّا؛ ثقافتكم غير ثقافتنا" ... وكأنّي بالمرأةَ السامِريّة-المَجهولة الإسم والهُوِّيَّة التي تُمثِّل سائر الناس المَجهوليّ الهُوِّيَّة وغير المُعترَف بهِم- عرفت أنّ يسوع لا يَستَثني أحدًا حتّى ولَا الخطأة أنفُسهم. لقد سَمَا يسوع بِنا إلى ما بَعد ما نطلبُه في صلواتنا من أمورٍ مادِّيَّة إذ نحن لا نعرف أن نسأل الحقّ على ما أوضح الرسُول يعقوب. نحن مَدعُوُّون إلى عيش الانفتاح على نعمة اللّه.
في اللِّقاء مع يسوع ألتَقي ذاتي، حقيقتي:"يا سَيِّدُ، أَرى أَنَّكَ نَبِيّ!" هو يكشِف لي عن وَجهي الحقّ لأنّه يجعلني أُسقِط قِناعي من تِلقاء ذاتي-"تَعالوا ٱنظُروا إِنسانًا قالَ لي كُلَّ ما فَعَلت"، كلّ ما أنا علَيه- ولَو بعد حين كما حدثَ مع المرأة السامِريّة التي حاولَت لِوَهلةٍ الاختباء من التَعرِيَة بِالهُروب إلى الأمام: "آباؤُنا سَجَدوا في هَذا ٱلجَبَلِ، وَأَنتُم تَقولونَ إِنَّ ٱلمَكانَ ٱلَّذي يَنبَغي أَن يُسجَدَ فيهِ هُوَ في أورَشَليم". ورغم ذلك، ساعَدها يسوع ويُساعِدني على الغَوص لاستكشاف الحقيقة المُجرَّدة عن الذات. في حين نرى التلاميذ قد"تَعَجَّبوا أَنَّهُ يَتَكَلَّمُ مَعَ ٱمرَأَةٍ، وَمَعَ ذَلِكَ لَم يَقُل أَحَدٌ ماذا تُريدُ أَو لِماذا تُكَلِّمُها". ما الذي أَبكَمهُم؟ ماذا دارَ في خلدِهم ؟ أمام مشهدٍ لم نألفهُ أو مُفاجِىءٍ لنا ألَا نتشابَه وإيَّاهم ؟
كان السامريّون "يَعبُدونَ ما لا يَعلمُونَ، لأنّهم كانوا يَجعلونَ مِن الله مَخلوقًا يَحُدُّه مَكان...فَفي مُخيّلتِهم، لم يكُن الله أكثرَ من صَنَم، ولذلك كانوا يَمزجونَ بَين عِبادة الله وعِبادة الشياطين" . أمّا بعد أن لمَس قلب الربّ المرأةُ السامِريّةُ -إذ أحبَّها أوَّلًا- وصارَ لِحياتها مَعنًى وهدَفًا، فقَد قادَت أبناء جِلدَتِها إلى المسيح وإلى الإيمان به بطريقةٍ شخصيّة: "لَسنا بَعدُ مِن أَجلِ كَلامِكِ نُؤمِنُ، وَلَكِن لِأَنّا قَد سَمِعنا وَعَلِمنا أَنَّ هَذا هُوَ بِٱلحَقيقَةِ ٱلمَسيحُ مُخَلِّصُ ٱلعالَم"ِ. هل أبحث عن وَجه يسوع وأبتَغيه؟ هل لمَسَني قلبُ الربّ فتَغيَّرتُ كالسامريّة؟ وهل أرغب، مِثلَها، أن أدعو قَومي إلى معرفة يسوع والسَير إليه ودَعوته "إلى أن يبقى عندهم"، "فيُقيم هناك يومَين": "إن أَحبَّني أحدٌ يحفظ كلامي ويُحبُّه ابي، وإليهِ نأتي وعنده نَجعل مُقامَنا" ؟ الآن عرَفوا "أنَّ ٱللهَ روحٌ، وَٱلَّذينَ يَسجُدونَ لَهُ فَبِالرّوحِ وَٱلحَقِّ يَنبَغي أَن يَسجُدوا". قابلوا "ماسِيّا ٱلَّذي يُقالُ لَهُ ٱلمَسيحُ" الذي "أَخبرَهُم بِكُلِّ شَيء. قالَ لَهم *أَنا ٱلَّذي يُكَلِّمُكم هُوَ*". لقد نالوا "عطيّةَ الله" بِ"ظُهور نعمة الله المُخلِّصة جميع الناس" لهُم.