لا أعلم لماذا أختاره دائماً وأرمي نفسي بين أحضانه. أستمع إلى كلامه دون ملل، أسير أخطر الدروب معه دون خوف، أثق به بلا وعي.
أتساءل دائماً أهي روحه ساكنة داخلي؟ أهو مسكني؟ أهذا هو الحب من النظرة الأولى؟
منذ أن تفتّحت عيناي على هذه الدنيا وأنا أشعر بأمان عند رؤيته. إنه أبي اللحّام الذي يعمل منذ الفجر لكي لا يحرمنا من شيء. أقولها وبكل فخرٍ إنني إبنة اللّحام أنطوان موسى.
رجل فلاّح، يعشق الأرض والعمل بها ورائحة الجبل. يهرب من ضجيج العالم وبشاعته إلى قبو البيت ويجلس قرب الكركة، ينتظر العرق الذي يعتبره الدواء القاتل للهموم. منذ ولادته وهو يعمل لمساعدة أهله، ترك علمه وهرب من الحرب، انتسب إلى حزب القوات اللبنانية وبسببه كاد أن يموت. فقد أصيب برجله ويده وكتفه ومازالت الشظايا في جسمه حتى اليوم. يتوجّع ويصعب عليه في بعض الأحيان المشي حتى إنه أجرى عملية فيها وتعذب، ومع كل هذا مازال عنده محبة خاصة لهذا الحزب وقضيته.
أبي يعلم ما بداخلي من عينيّ، يسهر اللّيالي عندما أكون مريضة. يكلّمني ويدلّعني وكأنني إبنة ٥ سنوات. دائمًا يحمل همي ومن أشهر تعابيره "أوعي تسقعي"، "انتبهي تاكلي شي ما بيسوالك"... دائماً أشعر بالذنب وكأنني عبء عليه لأن مرضي يجبرني أن آكل طعاماً خاصاً، ومع الأسف في بلدي لا يُعترَف بي وبأمثالي. لذلك أسعار الطعام الخاصة بي باهظة جدًا، فعلى سبيل المثال ربطة الخبز بـ 200000 ل.ل . ولبنان يغرق بأزمات لامتناهية واقتصاده منهار وشعبه يعمل دون مقابل وأبي كل ما يحصده من نهاره لا قيمة له. فلا أعلم ماذا يجب أن أفعل. أأنا عبء عليه؟ فعندما سمعني أقول هذا غضب مني وقال: "أنا بيّك". وهذه الكلمة كافية لتفسير وظيفتي في الحياة.
أخاف عليه وأحمل همّه، أفكر به دائماً، أتمنى أن أجد شخصاً يشبههُ أكمل حياتي معه، ولكن مع الأسف أبي كالعمر لا يتكرر مرتين. كنت أحزن منه عندما يقول لي لا يمكنني الذهاب مع رفاقي، وعندما لم يشترِ لي تلك اللّعبة، وعندما يوبخني ويعبس في وجهي. كان في النهاية يقول لي عندما تصبحين أماً ستفهمين كل هذا، وعندما تكبرين ستعلمين لماذا تصرفت معك بقسوة.
أريد أن أقول لك لا أريد أن أكبر لكي لا تكبر أنت وتسرقك الحياة مني. أخاف من بُعدك عني، ومن نسيان رائحتك.
أتعلم لماذا أحبك؟ لأنك أحببتني واحترمتني بكل حالاتي، تقبلتني كما أنا. وعندما أخطأت وأحرقت يدي بالنار داويتني. وقعت وأمسكت يدي ولم تتركني يوماً أنام وأنا حزينة ومهمومة، تعاملني كالأميرة دون مقابل.
أنت عالم أمانيّ وراحتي. لذلك أحبك.
إنك رجل أحلامي الذي يُدمع عينيّ بفرح.
ومع الأيام اكتشفت أنني قطعة من قلبه وهو كل قلبي. وعلمت أن الحب من النظرة الأولى لا يوجد سوى بين الأب وابنته.
لا أحبُكَ ولا أعشقُكَ، فأنا أموت برائحتك يا بابا.