أنا و.. أنت: ماذا بَينَنا ؟
صادقٌ قَول ذاكَ الذي أعلنَ: "أبي يعملُ حتّى الآن، وأنا أَعمل"، لأنّه فاعلٌ مع أبيه في كلِّ إنسانٍ يُحبّ ويرحَم ويتحنَّن ويُشفِق ويُضمِّد الجراح ويتَفهَّم ويتَعاطَف ويُريح حامِلي الأثقال ويَبني ما انكسَر أو تهدَّم... ويَشهدُ لهُ مَن يُقدِّر النعمة: "أَعمالُكَ كُلُّها صِدقٌ وَطُرُقُكَ ٱستِقامَة".
كيف أصِل إلى الصِدق في الفِكر والقَول والعمل، فأكون مَسؤولًا عن حياتي وحياتك؟
في الحياة الدَيرِيّة هناك وقفتان لِلراهب(ة) يوميًّا، يُمكن أن يتَبنّاها كلٌّ مِنَّا إذا وجَد ذلكَ مُناسِبًا:
- الأُولى، يَسأل نفسَه فيها: ماذا أُوتيتُ من قدُرات أستَثمرها اليوم؟
- والثانية: كيف عِشتُ علائقي مع الأشياء ومع أخواتي وإخوَتي؟
لَو قام كلٌّ منَّا بِالوقفتَين لَتَغيَّر وجهُ الكَوكَب، أليسَ كذلك؟ ذلك أنّه لو حاوَل كلٌّ منَّا اكتشاف ذاتِه وما فيها من قدُرات وما بَين يدَيها من نِعم ومَوارِد، وحَوّلَها لخِدمة الإنسان -كلّ إنسان وكلّ الإنسان:
- لَما كانَ وجَّه بولس هذا التَحذير إلى أهل غلاطيَة: "فَإِذَا كُنْتُمْ تَنْهَشُونَ وَتَأْكُلُونَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، فَانْظُرُوا لِئَلاَّ تُفْنُوا بَعْضُكُمْ بَعْضًا"، الأمر الذي يُمارِسُه كلُّ مَن يَفتِك بمَن يَختلِف عَنه ومعَه في الأفكار والمواضيع والمشاريع، لا سيَّما في غزّة؛
- لَما استَنتَج هُوبْز يومًا أنّ الإنسان هوَ ذئبٌ بحَقّ شبَهِه. ف"الإنسان هو مَن حقَد وحسَد وخطَّط ونفَّذ وأتَى بالدَّم الكاذِب" لا الذئب، وقد اعتبر غارودي أنّ جملة هوبز هي أصل الشرور في العالم. وما تَرتكبُه الصهيونيّة خَير دليلٍ على الوحشيّة التي يُمكن أن تَصدُر عن إنسان لا عن الحيَوان أو أيّ كائنٍ آخَر.
- ولَما قال سارتر "الجَحيمُ هُمُ الناسُ الآخَرون"، والدليل ما تَشهدُه عائلاتٌ من اقتتال بين الاخوة حول إرثٍ أو مالٍ أو ايِّ أمرٍ تافهٍ آخَر لا يَستحقّ صرف الطاقات في سبيله وهَدرها.
- أو لَما قدَّم لنا نيتشِه في مرحلةٍ "الرجُل الخارِق" أو "السُوݒِرمان"، واعتبَر "أنَ مَعنى أن نَعيش هو أن نَنهب و نَجرح و نَعتدي على الضَعيف و الغَريب، و أن نَفرِض عليهِما -وبِقَسوة- مَقولاتنا الخاصّة..مَدفوعين بِرَغبتنا في المحافظة على ذاتنا وإشباع المَزيد من الرَغبات والاستِحواذ على المَزيد من القوّة. وإذا ما أشتَدّ هذا الصِراع، فإنّها الحَرب" . وهذا ما يفعلُه حلف الناتو عبر العالم، بَدءًا من شرقنا إلى أفريقيَا مرورًا بأُوكرانيَا وصولًا إلى الصين وأميركا الجنوبيّة.
أفكارٌ كتِلك التي سبَق ذِكرُها أعلاه انتشرَت منذ قرون، إلى ما بثَّتهُ الدعايَة الأميركيّة منذ ما بَعد الحرب العالميّة الثانية إلى يَومنا هذا مُشَيطِنَةَ كلّ مَن لا "يَبصُم" لها أو يَخضع صاغِرًا، وحوّلت العَلائق بين الأشخاص إلى مُستَنقَع من الوَحل. "فالعلائق ليسَت سَليمة. والعَديد من التَحليلات تتَفق في التَشخيصِ: الفَردانيّة غَير المَضبوطة هي السبَب الرئيس وراء عَوارض الحذَر وسُو التواصل والحسَد و (انفِجار) الوِحدة" في عالمنا المُعاصِر. غير أنّ إريك ڤاردِن لا يُوافِق بالمُطلَق، لأنّه يرى أنّ "البَحث عن الاستِشراك والشرِكة حتّى في المُجتَمعات الأكثَر عَلمانيّة يتزايَد، ويتَضاعَف -بقوّةٍ- عدَد الأشخاص السَاعين وراء عملٍ تطوُّعيّ تُحرِّكُه الرغبة المُزدَهِرة في فِعل أشياءَ مع الآخَرين ولأجلِهم"، بُلوغًا إلى السعادة. ويجِد أنّ "خطيئتنا تكمُن في التَخريب على الرغبة، عبر تَشتيتِها بِتَوجيهِها نحوَ أهدافٍ مختلفة".
هذا، وإنّنا حينَ نَدفع أجيالنا نحوَ المُنافَسة والتَسلُّط واحتِقار الأضعف نتَغافَل أنّ "الطريق الذي يَسلُكه المُنافس هو طريق القَضاء على خَصمِه (لا التَعايُش معَه). وذلك بقَتلِه أو قَهره أو إخضاعِه لِلسَيطرة عليه أو العمل على أن يَحِلّ محلَّه بالاستِئصال أو الطَرد" ؟!.
الشِفاء من جِراحِنا مُمكِن ؟ !
ما سبَق يدُلّ كَم هي كثيرة وعميقةٌ الجِراح التي نتسبَّب بها ذاتيًّا أو غَيرِيًّا، عن مَعرفة أو عن جَهل. فهَل من سبيل لِلشِفاء منها؟
بالطبع سيَكون الأمر أكثر صعوبة في العالم الافتراضيّ حيث نَحيَا وحيثُ نَرى أنفُسَنا بِطريقةٍ مِثاليّة. لأنّه في زمَنِنا، وإثْر الانتشار الواسِع النِطاق والتأثير غير المَحدود لِـ"السُوشِيل مِيديَا" والاتِّكاء على الذكاء الاصطناعيّ بِلَا رقابَة أو وازِعٍ ضميريّ، نجِدُنا أمام مُعلمين كذَبَة في كلِّ مجال: من الدين إلى السِياسة إلى الاجتِماع والاقتِصاد والمالِ والتَربية والفنّ، إلَخ...، يَلجأون إلى اللُّطف الظاهر والنُعومة في أقوالهم وأعمالهم، ويتَظاهَرون بالوَداعة والتَواضع لِيَخدَعوا قلُوب البُسطاء والسُّذَّج، لا بل يستَهزِئون بِذكاء الناس. هنا، يُؤَكِّد سارتر "أنّ الناس الأكثر وَعيًا وإدراكًا لا يُمكن أن يكونوا أشرارًا، لأنّ الشرَّ يتَطلَّب غَباءً ومَحدوديّةً في التَفكير"، وهوَ على حقّ، لَا؟! لِذا، لا بَدّ من استِنهاض وَعيِنا وإدراكنا والاتِّحاد في ما بَينَنا والتخطيط لِما يَبني الحياة ويُنَمِّيها ويَخدم الناس، كلّ الناس، بحيث تكون "الحياة بِوَفرةٍ للجميع" ويسُود الحقُّ والسلامُ في أرجاء كَوكَبِنا. لِذا، تُعتبَر القُدرة على ان أنظر إلى نفسي كما أنا بِمَثابة الخطوة الأولى نحو المُواجَهة مع الآخَر، وهذا ما يُسمِّيه آباء الكنيسة التواضُع. وهذا أحَد عناصِر الشفاء من بعض الجِراح.