استهلال:
صدرت رواية "تغريبة الأيزيدي" للروائي صائب خدر، في مطلع هذا العام 2024، عن "دار سطور للنشر والتوزيع " ببغداد، في طبعتها الأولى.
تعرّج الرواية على "الفتح الداعشي "الأخير، لمناطق أيزيديي العراق، وتفضح الآثار التدميرية الإبادية المتمخضة، على المستويات الإنسانية والقيمية وحتى الطبيعية، بل تهتك المقاصد الاجتثاثية الشائنة، لأولئك السلفيين المتطرفين حيال الأيزيديين، وهويتهم الثقافية وعلاماتهم الحضارية الفارقة، التي تعزز وجودهم التاريخي الأصيل، او تدلل على علاقتهم الروحية المتجذرة في/ بالمكان.
ينفتح خدر في تغريبته، عبر التخييل والاسترجاع والمعاناة، على دواخل شخوصه ومخاوفهم ووساوسهم، حيال ذواتهم والآخر، ويطفو الأيزيدي المتخم في حضن وطنه، بالإبادة والقهر والإلغاء والدونية وهواجسها من جهة، والمنصهر إلى حد تذويب الخصوصية في مهاجره القسرية من جهة أخرى.
يتنزه صائب خدرـ ان أجاز ألبيرتو ـ سردياً بين واقع استئصالي مرير مزمن بطاش، وماض دامٍ يلطخه كما الحاضر، السبي والقتل المروع والتهجير والإكراه على تغير الدين.
وما هبّة سليمان البعشيقي، وداعش تدنو من الموصل من نومه، مؤرقاً كما يرد في التغريبة، بكابوس "الفريق حافظ باشا "، "المتكالب" كـ"بعبع"على "الذاكرة الجمعية" الأيزيدية، إلا علامة مؤكِّدة على قلق وجودي قديم جديد، لامتناهٍ لدى الأيزيدي.
تتحرك شخصيات "تغريبة الأيزيدي"؛ تتفاعل مع سائر مكونات العملية الروائية، من سرد وأحداث وأزمنة وأمكنة، يؤطرها فضاء روائي ملتهب، أساسه واقع قهري مزمن فتاك، بل اجتثاثي يفوق في إيذائه الخيال، وخيال فاعل يحاول أن يلم ب/ بمعنى يصور، مستعيناً بالتاريخ المدمى، الضرر العظيم المتمخض على الأيزيديين.
على ضفاف اللغة والسرد:
ـ العنوان بين بعد لغوي صرفي وآخر انساني:
مفردة "تغريبة " في عنوان الرواية موحية، تلمح إلى "هيئة" "المضاف إليه"؛ أي الأيزيدي المكتوي من/ في عراقه بـ"الاغتراب الروحي"، ولا يقف ـ هو العنوان ـ في افضاءاته هنا عند فيوض "مصدر الهيئة"، بل يلتهب كذلك بمعان صرفية صارخة من مقذوفات "المرة"، لكن تلك المرة المناوئة لقاعدتها الصرفية، والمتكررة مرة بعد مرة، كشاهد ثقة على ابتلاء "المضاف إليه "، باضطرابات عصابية أو ذهانية مستحكمة، عمقها الاضطهاد التعسفي أو سواه من مغبونيات مزمنة، جرجرت مكابديها إلى تلاش عضال، على الصعيدين النفسي ـ الاجتماعي الإنساني. ومعلوم أن الاغتراب/ التغريبة إذا ما أضيف إلى الأيزيدي، فإنه يسمم علاقة "المضاف إليه"، هذا المثقل بالرفض والإلغاء والاستئصال مع المكان، بل يحوِّل فضاءات المكان لجهة الانتماء المفترض، من "وطن رحيم "الى "مُغترَب رجيم".
ـ لغة التغريبة بين "بعشيقيّة ـ بحزانيّة" و فصحى:
"العامية" أو الكلام المحكي مستثقل في العادة، حتى في الحوار، داخل الأعمال الروائية، لما قد يحمله من لُكونات محلية أو عجمة أو غرابة، لكن لـ"اللغة البعشيقية البحزانية" إن صحت التسمية، وقع خاص قد يغري المتلقي لجدته، فينشغل عن انقباضه النفسي بل يستسلم تبعاً لذلك، وعلى مدار اقترافه التذوقي، لسلطنة لسانية ذات وقع سيادي فريد.
وللاستدلال على وقع "اللغة البعشيقية البحزانية" الرشيق فإن جمل:
"لين كنت غيح. ص 128"/ "لكن شنو دورهم صار من 2004 كيحمونا. ص 30 "/ "أ هذا انت ايش جابك لهوني. ص 131 "/ "ها سليمان خيرك. ص 165 "/ "وشنو صار منكم. ص 48 "،المُعالَجة كلها وسواها معملياً، في "تجاويف الهواء"، وما يرتبط وظيفياً بتلك التجاويف، من "مضخات" و"صمامات" وأنسجة وأعضاء أخرى، في الجهاز النطقي ـ الصوتي لدى "المتحدث"، الممهور لغويا بـ"فونيمات" مُبهِرة من الإبدال والإعلال والإقلاب، لا ترسم حدوداً فونوتيكية فاصلة بين مواطني بعشيقة وبحزاني، وسواهم من مواطني العراق وحسب، بل تضفي مسحة جمالية على البناء السردي، وتميط اللثام عن ابتكارات معملية مُفعَّلة فونولوجياً، بغية استحداث مفردات وتراكيب؛ إن مزجية أو إضافية أو إسنادية جديدة، لها دلالة الكلمة أو العبارة الفصيحة، الأصيلة ذاتها أو أخرى مغايرة، وللتفصيل فإن:
("لين ") تتركب مزجياً من ("إلى " و "أين "). و("غيح ") تجمع بين الإعلال والإبدال؛ حيث "غ "أصلها "ر"، وتعكس رقرقات شد وجذب، شهدتها عضلات الرئة، ثم الحنجرة واللسان وهكذا دواليك، كي تشهر من ثم بلدتي "بعشيقة وبحزاني"، الممتدتين على بعضيهما؛ حضارياً جغرافياً تاريخياً على شكل أيقونيّ، "مملكة لغوية" مستقلة، حدودها ثقافتها ولغتها المغايرتان.
من ههنا وعليه: فالتغريبة قد ترسم وهي تعرج على "البعشيقيّة البحزانيّة"، علامات استفهام كبيرة لدى المتلقي حول: هل هي لهجة أم بقايا لغة منقرضة، وهل لتطابقها مع "المردلية "، التي يتكلمها أقوام من السريان والعرب والكرد، في ماردين التركية، والجزيرة السورية دلالات ما؟. لكن ومن واقع لغوي مُعكِّر: هل يتساهل المتلقي نفسه أو سواه، ممن يساعده حدسه اللغوي على الملاحظة، في ضبط "خروقات مشهودة" او عثرات غير مُغتفرَة، لجهة السرد والنحو والصرف والإملاء، وحتى الطباعة؟ ثم من المَلوم هل لدار النشر أم الروائي نفسه؟.
ـ ضمير الغائب بين السارد والروائي:
يُدشَّن الفعل الحكائي في التغريبة بضمير الغائب، وتتعالق "الأنا الساردة"، مع "الأنا الروائية" أو تنفصل، لكن "ضمير الغائب" الذي يسود، يطغى في حضوره، ويشرعن بل يزين لذاته سطوه على/ أو احتكاره لفضاءات السرد وعوالمها، ويعترض على أي دور لـ"ضمير المتكلم" أو "المخاطب" في الفعل السردي، والسؤال المشروع ـ هنا ـ لِمَ اقتصر الروائي على تقنية "الغائب"، هل ليتراءى بمظهر "الراوي العليم"، ويلمح من ثم إلى ضلوعه الكلي بالتفاصيل، أم ليعرب عن حياديته حذاء الأحداث المروية، ويثبت تالياً أنه راوٍ غير مشارك، أم ليحصن نفسه من الوقوع في فخاخ "أنا المتكلم "، وما يمكن أن تثقل به تلك "الأنا"، من لدن المتلقي من اشتباهات جزافية منافية للحقيقة، لكن السؤال الأكثر إلحاحاً: ألم يسخر الروائي، وهو يقترف السرد شيئاً؛ إن كثيراً أم قليلاً من ذاته، لِمَ عمد إذاً إلى التواري خلف ضمير الغائب؟!.
يتبع ..