1."تعالَوا إلى كلمةٍ سَواء[ التفسير الوسيط : ويستفاد من هذه الآية "والسواء: العدل والنصفة، أى قل يا محمد لأهل الكتاب: هلموا وأقبلوا إلى كلمة ذات عدل وإنصاف بيننا وبينكم. أو السواء: مصدر مستوية أى هلموا إلى كلمة لا تختلف فيها الرسل والكتب المنزلة والعقول السليمة، لأنها كلمة عادلة مستقيمة ليس فيها ميل عن الحق".] بَينَنا وبَينكُم ..." (سورة آل عُمران، 64).
قِيل: "لِلسياسةِ روحٌ هيَ الحرب، وحياةٌ هيَ الدپلوماسيّة". السياسة منذ آجالٍ بعيدة بُنِيَت غالِبًا على الكَذِب: الكذِب حَول أسباب شَنّ الحروب، والكذِب دپلوماسيًّا أي قَول ما لا نضمُر.
والسؤال المِحوَرِيّ يبقى: لِمَ تُشَنُّ الحروب؟
مَهما أُعطي من تبريرات لِلحَرب، تبقى الحربُ آلةَ قتلٍ لِلحياة، وتَدميرٍ لِما رفَعتهُ السواعِد وشيَّدتهُ الأجيال، وسَبَبًا لِنَشرِ الحِقد والكراهيّة بين الغالِب والمَغلوب والخسائر في كلِّ المجالات الحيَوِيَّة للناس.
بينَما الكلمةُ هي لُغَةُ التواصُل بين البشَر، من خلالها يتحادَثون وبِها يتَفاهَمون فيتَسالَمون. وعِبرها يخُطّون مشاريعَهم على اختلافها لِبناء وتَلوين ما يُزَركِش عَوالِمهم. وهي لغةُ تَدجينٍ مع الحيَوان وباقي الكائنات.
حقًّا إنّ "المسافةَ بينَ الكلمةِ والأُخرَى هيَ التي جَعلَتنا نَقرأُ ونَفهم ما نكتُب. (ومن المعلوم) أنّ عيوبَ كلِّ إنسانٍ وأخطاءَهُ وأفعالَه ورَدّاتَ فِعلِه وكلماتِه لا تَظهَر إلَّا لدَى الاقتِراب مِنه. من هُنا، كلماتُنا يُمكن أن تَجرَح أو أن تَترك أثَرًا دُون أن يَشعر بِها (مُطلِقُها) نتيجةَ امِّحاءِ المسافَة بَينه وبَين الآخَر".
"في البَدءِ كان الوُجود. لكنّ الوجودَ لا يكون بِدُون كائناتٍ أو بِدُون شَيءٍ ما.
في البَدءِ كان الفِعلُ، ولكنَّ الفِعلَ لا يتِمُّ دُون فاعِل، دونَ *أنت* يلتَقي بِه.
في البَدءِ كان اللِّقاء، فأنتَ بِجانبي، ولِهذا السبَب أُريد أن أنتزِع عينَيك وأضعَهُما مكان عَينَيّ، وأنت تنتَزعَ عَينَيّ وتضَعَهُما مكان عينَيّ، وهكذا تَراني بِعَينَيك"[ MORENO, Psychotherapie de gtoupe et psychodrama, P.U.F. 1965, p 128]. هكذا تتَكامَل عمليّةُ التواصُل بين الكلمة والعَين ليتَحقَّق اللِّقاء بينَ النَظرة والكلمة، ويبدأُ مَسيرُ الإنسان مع أشباهه ومع سائر الكائنات.
كنَسِيًّا، نُعلِن أن "في البَدءِ كان الكلمة"-"اللُّوغوس"[ Λούος باليونانيّة] ... وكان الكلمةُ الله".
الكلمةُ هو يسوعُ الناصِريّ الذي جاءَ "خبَرًا سارًّا"-"إيڤانجيليُون"[ εὐαγγέλιον باليونانيّة] لِلناس كلِّهم على السَّواء. ما حَدَا بكثيرين أن يُقبِلوا إليه مُنشِدين العافيَة والحياة والفرَح والرجاء. ومن بين هؤلاء ضابط رومانيّ دَنَا إليه راجِيًا بكلمة:"يا سَيِّدي، إِنَّ غُلامي مُلقًى في ٱلبَيتِ مُقعَدًا يُعَذَّبُ بِعَذابٍ شَديد". لم يَدنُو من أجل نفسه بل من أجل خادِمٍ لدَيه مُريدًا إنهاءَ "عذابه الشديد". إيمانُ قائدِ المِئة هو أنّ الكلمةَ اقوَى من أيِّ انقِسام، وأنّ الكلمةَ إذا نُطِق بِها بِسُلطان، تَجاوزَت الحُدودَ التي يَعجز الانسانُ عادةً عن تخَطِّيها ... لقد فتَح قائدُ المِئة أبوابَ الملَكوت لِلعالمِ أجمَع (إِنَّ كَثيرينَ يَأتونَ مِنَ ٱلمَشارِقِ وَٱلمَغارِبِ، وَيَتَّكِئونَ ... في مَلَكوتِ ٱلسَّماواتِ) وأبناءُ الملَكوت الذينَ تَأكلُهم الغَيرة "يُلقَونَ في ٱلظُّلمَةِ ٱلبَرّانِيَّة. هُناكَ يَكونُ ٱلبُكاءُ وَصَريفُ ٱلأَسنان". كان الضابطُ يَعرف انّ يسوع يَهوديٌّ، ولكنّه أسقط جِدار المُنعَزَل النَفسيّ والفِعليّ الفاصل بين الفئَتَين سائلًا الشِفاءَ لغُلامِه مهما كلَّف الأمر. وقد سبقَه يسوع في إسقاط جِدار العداوة[ "فَصَرَخَ يَسُوعُ مَرَّةً أُخْرَى بِصَوْتٍ عَظِيمٍ، وَأَسْلَمَ الرُّوحَ. وَإذَا سِتَارُ الْهَيْكَلِ قَدِ انْشَقَّ شَطْرَيْنِ، مِنَ الأَعْلَى إِلَى الأَسْفَلِ، وَتَزَلْزَلَتِ الأَرْضُ، وَتَشَقَّقَتِ الصُّخُورُ، وَتَفَتَّحَتِ الْقُبُورُ" ...] -الذي أقامه اليَهود- بِتَعاطيه المُنفتِح على كلِّ مَن يَنبُذهم هَؤُلاء. هذا الفَصلُ لمّا يزَل اليَهود يَعتمِدونه في تعاطِيهِم مع باقي الناس، هُمُ يزعمون اللتفوُّق عِرقِيًّا إذ ينحَدِرون من ابراهيم "النَقِيّ"، ويرَونَ أن"لم تُخلَق الدُنيَا إلَّا لِبَني اسرائيل، ولا يُدعى أحدٌ ابنًا لِلربّ إلَّا بَنُو اسرائيل"[ المِيشْنا، على لِسان الحاخام عَكِيفَا]. وما جِدار الفصل بينَهم وبين الفلِسطينيِّين، وبينهم وبين لبنان سِوَى البُرهان على ما تقدَّم من كلام.
2. الكلمةُ "روحٌ وحياة"[ يوحنّا 6: 63]
قائدُ المِئة دَنَا إلى يسوعَ مُعتَمدًا "كلمةَ سَواءٍ"، أظهَر فيها حُبَّه غير المحدود لـ"غُلامِه"(أي خادِمه) وكأنّه ولده. ويسوعُ شعَر بِمِقدار حُبِّه لخادِمه، فَرَدَّ عليه فَورًا بكلمةٍ أحسَن وفِعلِ رَحمة آنِيّ:" أَنا آتي وَأَشفيه". وبادَلهُ القائد: "يا سَيِّدي، لَستُ أَهلاً أَن تَدخُلَ تَحتَ سَقفي! وَلَكِن قُل كَلِمَةً لا غَير، فَيَبرَأَ غُلامي". إيمان القائد هو "طريقة وُجود، طريقةُ حياة، أي طريقةٌ لكَي يَحيَا مِثل المَسيح في المحبّة"، في أن يكونَ، وَفي أن يُحِبّ". هو إيمانٌ بقُدرةِ الله ومحبّةِ الله المُتجسِّدَة في المَسيح يسُوع ولَو"عَن بُعْد" أي يتجاوَز الجُغرافِيَا. كلامٌ قالَهُ يسوع مِرارًا: "إذهَب، وليكن لك كما آمَنت"، و"كلّ شيءٍ مُمكنٌ للمؤمن". غيرَ أنّ واقِعَةُ قائد المِئة جاءَت مُميَّزة بِقُوّةٍ: "أَلحَقَّ أَقولُ لَكُم: إِنّي لَم أَجِد مِثلَ هَذا ٱلإيمانِ حَتّى وَلا في إِسرائيل!" التفاعُل الروحيّ والنَفسيّ بين الرَجُلَين، يسوع والقائد، جعَل المسيحَ يَصرُخ بأعلى صَوتِه مُثْنِيًا على إيمانِ الرجُل ومُعلِنًا إيَّاه قُدوةً ونِبراسًا تفوَّق على الذين يَحسبون أنفسَهم أبناء الله وَحدَهم ودون مُنازِع. مُتذَكِّرين أن "أبعد من إدانة هذا الشعب، فَلنُحاوِل أن نرَى إلى أيّ حَدٍّ يُمكنُنا أن نُشبِهَهُم عِندما نتَشبَّث بِكمال الحياة المَسيحيّ بِصُورةٍ كاريكاتوريّة".
ما تقدَّم، يَدعونا إلى التساؤُل:
أينَ نحنُ مِن إيماننا؟
بِماذا أو بِمَن نُؤمِن؟
وهل الايمان هوَ مُجرَّد اعتِناقٍ لِلمبادئ أَم هو ثُنائيّة إيمان وأعمال (يعقوب 2: 26)؟
قال أوليڤيِه كْلِيمان يومًا:"الايمانُ هوَ أن يَشعُر الانسانُ بأنّه مَحبُوب، وأن يُجيبَ على الحُبّ بالحُبّ"، لا"بِسَفك دمِ الآخرين، بل سفَك يسوعُ دمَه من أجل كلِّ إنسانٍ بِبَسْط يديه على الصليب. لا موضع بعدُ للسيف ولا للعنف، بل للوُدعاء والمُتواضعين على مِثال الربِّ القائل:"تعلَّموا منّي، فأنا وديع ومتواضع القلب".