دولة تعدديّة، عانت عبر التاريخ من تدخلاتٍ أجنبيّة وحروب أهليّة، محيطة بدولٍ توسعيّة، نقطة لقاء بين الشرق والغرب، جغرافيا جبليّة، نظامٌ فدراليّ وسياسة خارجيّة مبنيّة على الحياد. قد تظنّون في البداية أنّنا نتحدث عن لبنان، إلّا أنّه لم يصل بعد إلى التطوّر الفكري لخلع حجة "التقسيم والمقاومة" ويطبّق نظاماً يتلاءم مع شعبه. تتشابه الدولتان في الشكل لكنّهما بعيدتان كلّ البعد في المضمون. دولة تحتوي التطوّر، أمّا الأخرى فتخوّنه ثمّ تهجّره أو تقتله. دولة استطاعت أن تبقى بعيدة عن حروبٍ إقليميّة وعالميّة، بينما الأخرى تغطرست في أفخاخ الدول "الشقيقة". هنا نسأل: إلى متى ستبقى كذبة الدولة المركزيّة القويّة شعار الدولة اللبنانيّة؟
قبل أن نبدأ، علينا أن نبسّط الأمور ونعرّفها، إذ أغلبيّة اللبنانيّين ينجرّون وراء شعاراتٍ وهميّة، يعمون أبصارهم، يقفلون أذهانهم وآذانهم. إنّ الفدراليّة ليست تقسيماً! الفدراليّة لديها تسمية أخرى، وهي الدولة الاتحاديّة، فكيف لدولةٍ منقسمة أن تُسمّى "اتحاديّة"؟ فالفدراليّة هي اتحاد دولٍ تحت غطاء الدولة المركزيّة، فسويسرا مثلاً، تشكّلت عبر تحالف ثلاثة كانتونات في العام 1291 لحماية بعضها البعض من أي اجتياح أجنبي، وبدأت كانتونات أخرى تدخل الاتحاد عبر الزمن إلى أن وصلت إلى 26 كانتوناً اليوم وأُعلنَت الفدراليّة السويسريّة رسميّاً العام 1815. وعلى كل ولاية أو كانتون في النظام الفدراليّ أن تحكم نفسها بنفسها، أي أن يكون لها دستور خاصّ وقوانين خاصّة (على ألّا تكون متناقضة مع دستور الدولة الاتحاديّة)، ومجالس تشريعيّة، وتنفيذيّة، وقضائيّة مستقلّة عن الدولة المركزيّة، وعلى الولايات/الكانتونات أن تؤمّن جميع الخدمات لمواطنيها ما عدا السياستَين الدفاعيّة والخارجيّة التي تظلّ حكراً على الدولة المركزيّة.
أمّا الحياد الدائم فيتمّ عبر توقيع معاهدة تتعهّد فيها الدول الكبرى بضمان هذا الحياد، وممكن للدولة أن تُعلِن حيادها إفراديّاً ومن بعدها يُكرَّس هذا الإعلان عبر موافقة أو اتفاقيّة دوليّة[ الوسيط في القانون الدولي العام، الدكتور محمد المجذوب، الطبعة السابعة، 2018]. وبالتالي هو دائم ومستمرّ، لا ينتهي مع انتهاء حرب ما. فحياد سويسرا مثلاً، قرّرته في البداية المقاطعات السويسريّة بعد الهزيمة المدويّة على يد الجيش الفرنسيّ في معركة ماريغنانو في العام 1515، إلّأ أنّه تكرّس دوليّاً في مؤتمر فيينا العام 1815 وبموجب معاهدة فرساي العام 1919. اختارت سويسرا الحياد لمنع المقاطعات التي تنتمي إلى مذاهب دينيّة متعدّدة أخطار الحروب التي كانت قائمة في أوروبا بين الدول الكاثوليكيّة والدول البروتستانتيّة، وحياد سويسرا هو الضمان الوحيد لمنع رعاياها من التحالف مع إخوانهم في القوميّة (إن كانوا ألماناً، فرنسيّين أم إيطاليّين)[ المرجع ذاته]. والدول المحايدة ليست مُلزَمة أن تكون غير مسلّحة بصورة دائمة، إذ سويسرا تطبّق التجنيد الإجباريّ، إلّا أنّه ممنوع عليها أن تدخل في أي حرب أو أن تسمح لأي دولة أن تقيم قواعد عسكريّة على أرضها وكما يُمنع على الدول المتحاربة أن تستخدم إقليم الدولة المُحايدة أو جوّها أو مياهها الإقليميّة أو مرافئها لنقل الجنود أو الذخائر والمؤن أو إقامة تدريباتٍ عسكريّة. إلّا أنّه لا يمكن للدولة المُحايدة أن تمنع مواطنيها من التطوّع في قوّات إحدى الدول المتحاربة.[ المرجع ذاته] على الرغم من ذلك فالحياد والتعدديّة السويسريّة لم تمنع قيام حروب أهليّة، إذ حدثت أكثرها بين الكانتونات الكاثوليكيّة والكانتونات البروتستانتيّة، آخرها حصل في العام 1847. ثقافة الموت في سويسرا إذاً أولَدَت ثقافة حياة للأجيال القادمة.
أمّا في بلد الموت والغوغاء والنزاعات والتنازلات، فعانى لبنان ما عانته سويسرا بالمثل، إن كانت حروباً ونزاعات أهليّة (1840-1860-1958-1975 حتى 1990- 2005 حتى اليوم)، أو تدخلات أجنبيّة في شؤونه (إيران، سوريا، فلسطين، مصر، أو السعوديّة، تركيا، إسرائيل، فرنسا، الولايات المتحدة)، فكل دولة أرادت قطعة من كعكة لبنان. كما أنّ الثماني عشرة طائفة على اختلافها، تريد أن تدخل بشكلٍ أو بآخر في الدولة وعمليّة صنع القرار، فهذا حقّ لها وواجب على الدستور أن يؤمّن لهذه الطوائف هذا الحقّ. إلّا أنّه في هذا البلد الواهن، الذي لا يزال يعيش بكذبة عمرها 81 سنة، يُخوّن الفدراليّة ويُجرّم الحياد، كأنّه يعيش في دولة متّحدة وطنيّاً بامتياز وسياساتها الخارجيّة تتلاءم وشعبها على اختلافه.
من الدرزيّة السياسيّة إلى المارونيّة السياسيّة، ثمّ السنيّة السياسيّة وأخيراً اليوم نعيش في زمن الشيعيّة السياسيّة، متى سنعيش في زمن اللبنانيّة السياسيّة؟ وإلى متى سنظل نبكي ونندح من دون طرح حلول منطقيّة؟ اللبنانيّون جميعهم اليوم أمام تحدّ كبير، فإمّا أن يختاروا ثقافة العيش وإمّا البقاء في ثقافة الموت والغطرسة في حربٍ سوريّة أو غزاويّة لا تخدم البلاد لا من قريب ولا من بعيد. على اللبنانيّين جميعاً الإدراك أنّ الموت يكمُن في الأحاديّة والحياة تكمُن في التعدديّة، فلا يجب أن يخافوا من الطائفيّة السياسيّة ولا يجب إلغاؤها، بل يجب تنظيمها لخدمة مصالح الشعب والوطن. للشعب اللبنانيّ أتوجّه: هل تختارون الحياة (سويسرا) أم الموت (غزة)؟