الفضاء الروائي أو... تآزر الأمكنة وتواطؤها:
يضيق الفضاء الروائي بالتغريبة ويتسع، وتتلوى بعشيقة مع أختها بحزاني، بشوارعها وأزقتها ومعابدها وبيوتها وحاراتها وجبلها، وحاضرها وماضيها وبالطبع مواطنيها؛ أي بشرها، جراء الابتلاء بالفُحْش الداعشي، ويتحول الوطن بالبعشيقيين والبحزانيين، بخاصة الأيزيديين والمسيحيين منهم إلى صفيح ساخن، ويشرع الأهلون بالنزوح، ويتحول كثير من النازحين إلى مهاجرين، ومن هنا تتعدد الأمكنة وتتشابك، أو تتلاحق متواطئة، بخاصة بعد غزو كلٍّ من شنكال، فبعشيقة وبحزاني، أو مؤازرة، وتُسبَغ بأسماء إن واقعية أو متخيلة، من مثل (الشيخان، دهوك، مدرسة كلستان التي تحولت إلى مخيم ـ مُلتجَأ، هياكل الأبنية، زاخو، أربيل، مطار أربيل، تركيا، إسطنبول، البحر، القارب، اليونان، ألمانيا؛ كولن، فرايبورغ، الـ"هايم"، الـ"كامب"... إلخ )، كي تنطلي"اللعبة الروائية" على المتلقي، ويُستدرَج ـ من ثم ـ بالقص، مضللاً بـ"مصداقية" ابتدعها؛ أي احتبكها من وحي مأساوي، عن واقع تداعى أكثر إيلاماً، خيالٌ خلّاق.
واللافت ـ في هذا المضمار ـ أن الرواية تفتتح، وكذلك تختتم ببعشيقة، ثم يتمفصل ما بين المفتتح والمختتم، أمكنة التغريبة، وتتنوع تموضعاتها وخصائصها الطبوغرافية أو تختلف، لكنها تتداخل متماهية، عبر أبعادها الهندسية، والجغرافية، والفيزيائية، والفلسفية، والتاريخية، كي تؤسس لنفسها" كينونة حيِّزويّة"؛ بمعنى "مكانية"، أو إن شئت "فضائية"، تؤهلها كي تدخل في علاقات تفاعلية ـ ترابطية ـ تكاملية وثيقة، مع الأحداث والشخصيات والأزمنة، وسوى ذلك من العناصر الحكائية، التي تشكل "تغريبة خدر".
تصدير واقع محليّ و...تداخلات:
تبحر "تغريبة الأيزيدي "بالمتلقي، إلى الاغترابين الروحي والنفسي لشخوصها الأيزيديين، الذين تشوه لديهم، بفعل القهر والاستلاب والإبادة المتكررة، كل عائدية، وتبينُ ـ من ثم ـ كيف اضحت هوية هؤلاء الشخوص، بمعنى خصوصيتهم الثقافية والإنسانية، قاب قوسين أو أدنى من التحول، إن لم نقل الانقراض، فهي؛ أي التغريبة تعرِّف إذا بعوالم ومعالم وخصوصيات المكان والإنسان الأيزيديين، وتسهم ـ تالياً ـ بتصدير ما تراكم لها على الأصعدة الفردية والمجتمعية والتاريخية والثقافية، من مضامين ومطامح وآفاق، يغلف أغلبها مآسٍ وويلات و"فرمانات"، إلى خارج المجتمع الأيزيدي، بل إلى ما وراء حدود البلاد.
وحيث التغريبة، تعرف بالملاحقة الوجودية للعنصر البشري الأييدي، في بعشيقة وبحزاني وشنكال، أو سواها من البلدات و"المجمعات " والقرى الأيزيدية، تتظافر الظروف كي يتسلل المتلقي الضليع، إن أراد إلى بلدة "ماكوندو"، متلصصاً بقصد التملّي، إن لم نقل الموازنة على معاناة عائلة "بوينديا "، التي نقشها غابرييل غارسيا ماركيز، في "مائة عام من العزلة".
غير أن المتلقي عينه، وهو يستمرئ الدورين؛ "التعريفي" "التصديري"، لتقاطعات صائب خدر مع ماركيز، لن يفوت ذائقته، أن يتحسس بهذه المناسبة، ما جاد به نجيب محفوظ في أكثر من عمل روائي، أو عبد الرحمن منيف في مدن الملح، أو غيرهما من مُعولميّ الواقع المحلي روائياً، ويتساءل من ثم:
هل استطاع خدر، أن يعرّف أو يصدّر حقاً، بعضاً من محليته؟.
التغريبة... قد تشهد التغريبة هنا، أن الرجل عبر بلغته "البعشيقيّة "إلى ما وراء الحدود؛ أقلها حدود بلدته.
يتبع...