قاربت الشمس على المغيب، والظلام أوشك على الاقتراب. لم أستطع أن أنتظر أكثر، بدأت احتساء كأس الخمر، وتناول بعض من الجزر المقطّع. أردّت أن أمرّر الوقت بسرعة، فالانتظار صعبٌ وطويل. أمواجٌ من الأفكار تتقاذفني يسرةً ويمنةً، ولا أرسي معها على برٍّ آمن.
شريطٌ مسجّلٌ من سنوات طويلة يمّر الآن أمامي؛ منه ما هو مفرح، وبعض منه محزن.
بعضٌ من الأحاسيس "تنكزني"، و"تقرصني"، وتقول لي: "نعم أنتِ على قيد الحياة. أنت تنبضين. أنت تتنفسين".
لِمَ لا أشعر أنا بهذا النبض، وهذا الفيض من الحياة؟ أظنني ميتة بلا روح ولا نَفَس.
هل أيقظني كأس الخمر في يدي، أم أذابت رائحته المعتّقة جبال الثلج في أعماقي.
كنت أفتّش عن مادّةٍ للكتابة، وأجهد في متابعة كلّ جديد، كي أحصل على معلومةٍ، تساعدني في دعمِ مقالةٍ لي. لكنني شعرتُ بالاشمئزاز من الوضع السياسي في البلد، الذي لا يندمل جرحٌ فيه ليبرز آخر، ولا يصلح عطلٌ ليظهر آخر أكثر سوءاً.
لجأت إلى صومعتي، أنشدها خلاصاً من زحمة الأفكار والأحلام، وجعلتُ من الزجاج لؤلؤةً من الخمرِ المعتّق، الذي يلدغ القلب قبل أن يلدغ اللسان.
أردت الهروب، وأن أسرق لحظات من السعادة الوهمية في هذه اللحظة.
أدرك جيّداً أن مثل هذه اللحظات لا تكون مثالية أو حقيقيّة، لكنها قد تكون مواساة في لحظةٍ إنسانية مطلوبة أو وحدةٍ مفروضة تنسى فيها وديعةً سرقت منك، وأحلاماً حُرِمتَ منها، وطمأنينةً ترتأيها من زمنٍ مليء بالتقلّبات والخيبات.
تسترق اللحظة، وتتحايل بالموقف، وتبتدع المكان والزمان، فتلقي كلّ ثقل العمر في كأس خمرٍ، علّك تلقي كلّ الماضي في سلّة النسيان، فتتبخّر كل الأوجاع، كما يتبخّر مفعول الخمر في رأسك، لتنسى كلّ ما يؤلمك.
تجهز الكلمات وقتها بقوّةٍ وتهيّء نفسها للسرد الموجع، فتتساءل حينها، بينك وبين نفسك: من موجوعٌ أكثر أنا أم الوطن؟