"ضيعة" وطن و...وطن مغترب:
ـ بعشيقة وبحزاني منتمى فاضل:
تقحمنا تغريبة الأيزيدي في أجواء بعشيقية ـ بحزانية صرفة، كي تعرفنا إلى سمات المكان المحلية، وخصاله الثقافية ـ الحضارية بل الإنسانية المتنوعة، حيث نطل في بعشيقة على خمارة يرتادها الأيزيدي والمسلم والمسيحي، ونسترق السمع إلى أحاديث "جايخانة الرشيداني"، ونكحل عيوننا بمنظر "مروحة المستر"، تلك المروحة الحديدية العالية، التي أفاد "الأستاذ ابلحد"، أستاذ اللغة الإنكليزية في بعشيقة، أنها تعود إلى أحد مبشري البروتستانتية، الذي سكن المنطقة القديمة، ثم نكاد نفاضل، عبر ندامى ما يزالون يرفعون الأنخاب في الخمارة أو في منازلهم، بين "عرق بيت الياس" و"عرق بيت عتو" البعشيقيين، ونتعرف إلى "راحيل" المسيحية"، التي لم تكن تأكل الخس تضامناً مع صديقتها الخالة حسنة، ص 76 " الأيزيدية، وحسنة تلك الثمانينية، التي "تنهض في الفجر تؤدي شهادتها في الدعاء الصباحي تحاول السير أغلب الأيام إلى مزار "ملك ميران" القريب منها. ص34"، ونربت على كتفي "يونان بن راحيل (الذي) تربى وسط الأيزيديين. ص 76"، كفرد منهم، ويبهرنا العم بلال الصابونجي، البعشيقي المسلم الذي يجيب الدواعش في عز قوتهم، يتحداهم ويقدم خلسة الطعام والشراب لكمال المجنون، ومتروكين آخرين أيزيديين ومسيحيين، كرمى لحقوق الجيرة.
بعشيقة تطل في تغريبة الأيزيدي، "ضيعة فاضلة " في التعايش في ما بين مكوناتها علينا؛ إذ لا يكدر المسلم والمسيحي في بعشيقة، أن ينتفض "أيزيدي ميرزا" مكرماً في تمثال ـ مجسم وسط المدينة، وان تتسامق القباب والمعابد الأيزيدية بالتوازي مع الجوامع والكنائس، و...تتسع شمائل بعشيقة، تستعصي على الحصر، تكاد تبدو بهذه السمات أو تلك على الأقل لمن يعيش خارجها أفلاطونية، وقد يغلب هنا الفضول صاحبه حيال تلك الفضائل ويتساءل: هل كان حقاً للبعشيقيّ ـ وكل حسب معتقده ـ أن يتعبد في جامع الفاروق مثلاً، أو يبتهل إلى الله "وطاووسي ملك" في مزارات شيخ بكر و"ملك ميران" و"ناصر الدين" الأيزيدية، أو يتبتل باسم الآب والابن والروح القدس في كاتدرائية أو بمعية أسقف ؟... ما الذي تغيّر إذا!.
ـ العراق كبوة سيادة وطنية:
يكبو العراق كوطن في التغريبة، مثل حاله في الواقع، وتتخلى سلطاته الرسمية عن واجبها الأساسي، في ممارسة "أعمال السيادة الوطنية "على أراضي دولتها، وتنسحب تالياً المنظومة الأمنية العراقية العرمرم، بما فيها الكردستانية بكامل عتادها وعديدها من سوح الدفاع، مخلفة السكان (المواطنين) الآمنين، في سنجار؛(شنكال)، وبعشيقة وبحزاني وسواها من قرى وبلدات ذات أغلبية أيزيدية، وقبلها الموصل نهبا لنهم داعش وتطرفه، دون أن تكلف تلك المنظومة نفسها عناء بذل ولو الحد الأدنى من واجب الحماية والدفاع.
ـ العراق مرة أخرى... وطن مُغترَب وكمب وطن:
تعرّي التغريبة خراب حال مشردي الإبادة الداعشية من الأيزيديين،وتتيح ـ من ههناك ـ للقارئ أن يستهجن مع أمل؛ ابنة سليمان البعشيقي، فظاظة تسكعها والجموع الطريدة إثر الاجتياح الداعشي، بخاصة "في الليل (حيث) كانت أمل تشاهد العوائل التي افترشت الأرض والشوارع لتنام ليلتها هرباً من بطش داعش. ص 67"، وأن يستوعب تفكر تلك الصبية، في التحري عن مأوى اضطراري إثر سماعها "من إحدى النساء ...بأن بعض الأهالي انتقلوا إلى المدارس وأن السكن في هذه المدارس بمساحاتها الرحبة من دون تكلفة مادية. ص 69"، وأن يتأفف من تحول المدارس، من مركز تعليمي إلى مقر إقامة عاجلة، ويهوِّن ـ من ثم ـ على الآوين القسريين إلى "مدرسة كلستان"، التي أفردت إحدى قاعاتها للتخييم الجبري، ورخصت أن "تسكن في تلك القاعة عشر عوائل قطعت القاعة بحواجز من قماش تفصل بين عائلة وأخرى. ص 82"، وأن يدرك أن الحياة لم تعد" سهلة بالنسبة لعائلة سليمان داخل القاعة، فغسل الحمامات والمرافق وتنظيف القاعة كان بحسب برنامج أعده الأهالي ووافق عليه السيد أوديشو الذي كان يهددهم كعادته بأن وجودهم مؤقت مع بداية العام الدراسي. ص 84"، وأن يغتم ـ من ثم ـ مع المتذمرين، من عدم السعي على المستوى الرسمي العراقي أو الكردستاني، إلى برامج وخطط واستراتيجيات جادة، تعنى بخلق ظروف إنسانية لائقة، وتكفل حياة كريمة للنازحين، أو ترسم آفاقاً مستقبلية لعودة مشرفة، أو تتطلع إلى إعمار مناطقهم، و يتعاطف ـ سنداً على ما تقدم ـ مع مشروعية قلق سليمان البعشيقي على وجوده فرداً وعائلة وجنساً بشرياً في العراق: "لماذا إذاً نحن هنا نعيش هذا العذاب؟ تذكر قطعة القماش التي تحولت إلى غرفة معيشة بائسة والمستقبل المجهول مع كل هذا الاضطهاد الديني وانعدام فرص العمل و... ... لماذا لا أتحرك وأهاجر؟. ص 115ـ 116".
يتبع...