تحتَ مقصلةِ الموتِ يتسلّقُ النّهارُ فوقَ أكتافِ الّليلِ ليدخُلا في دائرةِ الّلانهاياتِ، هكذا هو الوقتُ في زمنِ الموتِ السّريعِ والبطيءِ ، كلّ الأشياءِ فقدتْ لونَها في لحظاتٍ، لم يصافح البحرُ رمالَه هذا الصّباح، لم يسمعْ أهازيجَ صيّادي أسماكهِ، لم يحتضنْ أقدامَ أطفالِ المخيّمِ الّذين تعوّدوا أن يقدّموا لهُ باقةً من ضحكاتِهم كلّ يومِ جمعة، كلّ شيءٍ تغيّرَ بسرعةٍ حتّى ساعة الحائطِ توقّفتْ. وحدهُ المخيّمُ بقيَ مستيقظاً على تلّةٍ من الرّمالِ.
شمالِ شرقي مدينةِ غزة، ينظرُ شمالاً كلَّ صباح، يتأمّلُ سهولَ المدنِ الفلسطينيّةِ الخضراء مستذكراً سهولَ القمحِ في أيّار الّتي سرقها لصوص الأرضِ في غفلةٍ من الزّمن. الشّاشةُ الزّرقاءُ مزدحمةٌ بالعاجل وصورِ الشّهداء وأدخنةِ الّلهبِ المتصاعدة، كلُّ الأشياءِ تغيّرت بسرعةٍ داخلَ المخيّمِ، فلم تعدْ تتواجدُ بسطة حليب وكعك أم علي، ولا قهقهات أطفال المدارسِ في الشّوارع، أصبح المخيّمُ مدينةَ أشباح، كأنّ زلزالاً ضربَه.
في الصّباح الباكر
جلسَ جبر أحميد ومحمد النيرب يحتسيان كأساً من الشّاي الممزوجِ برائحةِ أدخنةِ الحطبِ في أقصى زاويةٍ من المخيّم، تبادلا أطرافَ الحديثِ بسرعةٍ وعيناهما تنظران إلى السّماء، بعد أن أنهيا شربَ الشّاي دخلا إلى أحد المحال التّجاريّة الفارغِ من بضاعتِه منذُ الأسبوع الأوّل للحربِ بسببِ الحصار، بدأ محمد يقلّبُ قنواتِ التّلفازِ المختلفة داخلَ المحلّ الذي أسعفَ الحظّ صاحبَه بوجودِ مولّدةٍ صغيرةٍ، يبحثُ عن خبرٍ عاجلٍ.
محمد: أصبحت جثثُنا أرقاماً على الأخبارِ العاجلة.
كان جبر يراقبُ المشهدَ عن كثبٍ ويتساءل:
ترى عمَّ يبحث محمد عندَ الصّباح؟ يواصلُ محمد البحثَ كأنّه يريدُ أن يقبضَ على جيدِ الرّيح. التّلفازُ مكتظٌّ بخطاباتٍ تضاجعُ الأشلاءَ وتشربُ كأسَ الدّمِ الحارِّ، وبمؤتمرات هدير بياناتِها تساوي مناديلَ امرأةٍ عاجزةٍ، وهتافات تعلو في أرجاء الفضاء (نحن معكم) صوتُ امرأةٍ يقاطعُ الهتافَ: "دمُنا سيبقى حارّاً فاحفظوا خوفَكم في علبِ الحياة".
يتوقّفُ محمد عندَ خبرٍ عاجلٍ (سرّيّ للغاية) أطلقَ جبر ضحكةً مدويّةً ثم قال: منذُ أيّام (مراسلات حسين... مكماهون) هذا المسلسل متواصل... رسائل سرّيّةٍ من القادةِ العربِ إلى وليّ النّعمةِ (نرجو من سيادتكم أن توقفوا قصف غزّة)
لنا الّله يا محمد هؤلاء لم يفعلوا لنا شيئاً منذُ خمسةٍ وسبعين عاماً. انظرْ إلى أزقّةِ المخيّمِ المتخمة بصورِ الشّهداء ورائحةِ الزّعتر وشقاوةِ الأطفال الحالمينَ بالعودة إلى تلكَ السّهولِ، مشيراً بيدِه إلى الشّمال حيثُ تقعُ مدينة المجدل الّتي هُجّر أبواه منها ذاتَ مساء.
جبر: هل كتبتَ أسماءَ أطفالِك على أياديهم؟
محمد: لماذا أكتبُ أسماءَ أطفالي على أياديهم؟
جبر: حتّى نتعرّفَ عليهِم إذا استشهدوا
محمد: وما الفائدةَ الآن من الكتابة بعد أن علمَ الجميع أنّنا نكتبُ الأسماءَ حتّى لا يُكتب على جثثهِم (مجهول)، وباتوا يمعنون في القتل، وأصبحوا يستخدمون قنابلَ تحيلُ الأجسادَ إلى قطعٍ من الأشلاءِ والنّتفِ المبعثرة.
جبر: إنّها قمةُ الإجرامِ (لكن سنبقى هنا لن نكرّرَ أخطاءَ آبائنا عندما تركوا البلاد، وأصبحنا لاجئين في الوطنِ وعلى عتباتِ الحكّامِ في الدّول المختلفة)
محمد: ترى ماذا يخبّئ لنا هذا النّهار يا جبر؟ أعدادُ الشّهداءِ والمصابين أصبحت بالآلاف، ونحن ننتظرُ العونَ من الأشقّاء العرب والمسلمين.
جبر: دعكَ من هذا الكلامِ دنّست أطهرُ الأماكن (المسجد الأقصى)، ولم يتحرّكوا، هل ستكون غزّةَ أطهر؟ ليس لنا سوى الّله والمقاومة.
صوتُ الطّائرات بدا قريباً جدّاً كأنّها تريدُ أن تقضمَ وجهَ الأرضِ.
لحظاتٌ ممزوجةٌ بالخوفِ والتّحدّي، خرجا من المحلّ، نظرا إلى السّماء كانت الطّائراتُ تجوبُ فيها باحثةً عن هدفٍ لترمي بحممِها فوقه، هذه المرّة كان هدفُها مخيّم جباليا المكتظّ بالسّكّان، صوتُ الانفجاراتِ كان ضخماً، هرعَ محمد وجبر إلى مكانِ القصف، لم يعرفا المكان، لقد تغيّرت كلّ ملامِحه، صوتُ أنينِ الأطفال يعلو من كلِّ الاتّجاهات، يشقُّ سقوفَ البيوتِ، يصعدُ رويداً رويداً إلى صدرِ السّماء، يتوسّلُ بركاتها. لا أحد يجيب...
صوتٌ من بعيد: جبر هذا منزلُك، يصابُ جبر بالذّهول، يرتمي بشكلٍ جنونيّ فوقَ أنقاضِ بيتِه، يبحثُ بيديهِ تحتَ الرّكام عن أطفالِه الثّلاثة، يا إلهي أريدُ واحداً منهم فقط على قيدِ الحياة (مشان الّله يا شباب، ابحثوا أريدُ واحداً منهم على قيدِ الحياة، يا الّله لقد استشهدَ كلّ أولادي).
كان محمد يبحثُ في الجهةِ الأخرى عن عائلتِه فلم يجدْ طفليه مؤمن ابن التّسعةِ أعوام وأحمد ابن الخمسةِ أعوام،
تماسكَ قليلاً ثمّ صرخَ: (أولادي فدا فلسطين... سننتصر... سيبقى هذا المخيّمُ شّامخاً)
اتّصلَ محمّد بصديقِه من بيت خليل ليخبرَه بما جرى معَه ويدعوهُ للمشاركة في جنازةِ أولادِه، فإذا به يتفاجأ أنّ صديقَه هو الآخر فقدَ بعضاً من أفرادِ عائلتِه، وهو في الطّريقِ لإسعافِ أحدِ أطفالِه.
محمد: لا تهتمّ فدا فلسطين... فدا المقاومة... لن نسمحَ لشذّاذِ الآفاق بكسرِ إرادتِنا في الحياة.
كان والدُ الطّفلِ يستنجدُ بالمسعفِ نبيل أبو صقر حتّى يبقي ولدَه على قيدِ الحياة. (دخيلك يا نبيل الحقني هذا حمود فيهم كلّهم).
حاولَ نبيل في الطّريقِ إلى المستشفى أن ينعشَ حمود بالأوكسجين وبيديهِ في سيارة الإسعاف إلّا أنّه فارقَ الحياة عندَ وصولِه إلى المستشفى.
خرجَ والدُ الطّفل من المستشفى وأرسلَ رسالةً إلى الأمّةِ العربيّةِ والإسلاميّةِ (أبشّرُكم لا توجدُ إصاباتٍ في المستشفى الإندونيسي كلّهم شهداء، أربعمائةِ شهيدٍ من مخيّمِ جباليا ننتظرُ أخبارَكم).
كتبَ محمد على قبرِ أطفالِه"
سأهديكُم قطعةً من المدى، وكمشةَ زعترٍ من سفوحِ قلبي، لكن لا تنسوا أن تصافحوا الدّمَ الحارّ المتدفّق من جنباتِ القيامةِ، وأسوارِ المهد حتّى باحات الأقصى.
ملاحظة: هذه الأسماء حقيقيّة.