النهار

نسمة حياة
مر زمن طويل والجفاف يسيطر على القرنفل، لقد تحمل كثيراً غربة نسمة الحياة وعانى الأمرين من القحط. صبر واحتمل كل الشدائد والضمور
A+   A-
مر زمن طويل والجفاف يسيطر على القرنفل، لقد تحمل كثيراً غربة نسمة الحياة وعانى الأمرين من القحط. صبر واحتمل كل الشدائد والضمور، واجه نار حر هذا العالم وظلمه وأحكام البشر من حوله، فمنهم من قال إنه غير مجدٍ، ومنهم من اعتبره مجرد هشيم مجنون نما بين العليق وغدا مشرداً رخيصاً تافهاً في بيئة لا تأبه إلا للمظاهر والقوة، للكذب والرياء والمجاملات. فهي عناوين مبادئها وشعار يومياتها. وبالرغم من كل هذا الحصار، استمر وبقي حياً ولكن كان يتمنى الموت، علّه يرتاح، إلى أن وهبه الخالق نسمة الحياة التي هبت على كيانه وتغلغلت في جذوره، حينما كانت أوراق أيامه قد بدأت بالذبول والشحوب، ورحيق أزهاره قد غاض ونضب فأعادت إليه شذى الروح، وأمطرت عليه ترياق الأمل، فاستعاد رونقه واسترد قوة البقاء. مكثت نسمة الحياة معه لفترة من الزمن، ثم أتت زوبعة الهجرة القاسية فاقتلعتها عنه وسجنتها في قنينة العالم الظالم، وأوصدتها بقيود وأصفاد بيئته المريضة.
مرت أيام طويلة والقرنفل بعيد عن نسمة الحياة وغير قادر أن يلقاها أو أن يهتف لها كي تأتي إليه، لكن صدى نبضاته وهمسات مشاعره كانت تصل إليها من البعيد، وتغاريد حبه الطاهر وشوقه الكبير كانت تتردد في وهاد الكون حتى تسمعها وتلامس قلبها، لكنها كانت تبقى صامتة هادئة لا تتفوه بحقيقة أحاسيسها ولا بتنهدات روحها، بل على العكس كانت من خوفها الدائم تهديه الجفاء والصمت القاتل، فكان الصبر هو قراره والانتظار هو الحل الوحيد. مرت أيام وأشهر صعبة دون أن يراها، فعاد اليأس يسيطر على حياته والحزن غطى أوراقه وأغصانه. فجأة شعر بلمسة جميلة تلفح أزهاره وتضفي عليه الانتعاش والنشاط، فأدرك أنها هي نسمة الحياة وقد هربت سراً من قبضة الزوبعة ومن سجن العالم الجائر الشرس، والتقت لهنيهة القرنفل ونثرت في قلبه الأمل والأحلام، ثم عادت أدراجها دون أن ينتبه العالم لها. ولكي تستطيع دوماً رؤيته وزيارته قررت الرجوع إلى السجن، وكلما سنحت الفرصة تتملص وتفر مجدداً لكي تُبقي فيه الرجاء والقوة فينمو ويزهر في الحياة ويملأ عطره الفضاء لينعش الأجيال بشذى قلبه.
نسمة الحياة والقرنفل توأمان لا يفرقهما أي أمر للأبد.




اقرأ في النهار Premium