المعلوم أن الأرث البوليفاري لصاحبه سيمون بوليفار مازال يطبع الحياة السياسية في بوليفيا، إن لم نقل في كل دول أميركا اللاتينية، تلك البوليفارية على الدوام من حيث عقيدة الوحدة القومية والتحرر، والتي لا تسمح بأن تعود إلى بيت الطاعة الإمبريالي الذي طالما استهدف الديمقراطية الشعبية، وفق ما وردت في الفهم الاشتراكي للبوليفارية.
لقد خبرت دولة بوليفيا جيداً الانقلابات العسكرية، وصارت تتمترس اليوم وراء تجربة ثرية من الصراع بين المدنيين والعسكر لافتكاك الحكم وتقديم البدائل لهذا البلد الفقير، الذي ثابر في حربه على الفقر تماماً كحربه على احتكار الثروة والحكم. لكن مطامع العسكريين لا تنفك تفاجئ العالم باستنهاض أطماعها، تماماً مثلما حصل منذ أقلّ من سنة في عددٍ من الدول الأفريقية، ليعود الجدل مجدداً حول تأصّل الديمقراطية في هذه الدول من عدمه، بعد خسائر تاريخية وتنموية وبشرية، كان من الممكن تفاديها واستعمالها من أجل تركيز ديمقراطيات صلبة أمام صلابة القوى الانقلابية، التي قد تتفاوت قابلية نجاحها حسب الظروف التي لا تخفي في أغلب الحالات حضور المعطى الخارجي بشدّة.
الحالة البوليفية والتفرّد الشعبي
يبدو أن صدى كلمة الرئيس البوليفي لويس آرسي إلى شعبه قد شكّلت درعه المدنية في مواجهة مطامع رئيس أركان جيشه السابق، الذي داهم القصر الرئاسي في لابازا بوساطة مدرّعة حربية، ليُعيد إلى الأذهان مشاهد ظننا أنها قد اختفت إلى الأبد في التعامل مع الاضطرابات التي شهدتها العديد من الدول في مثل هذه الظروف.
في الحالة البوليفية تحوّلت القيادة العسكرية إلى ممارسة الضغط المباشر على الاختيار الشعبي، بعد تأكد حظوظ الرئيس السابق دي موراليس في العودة إلى الحكم مجدّداً، بمعنى أن السبب الرئيسيّ لمحاولة الانقلاب الفاشلة هو قطع الطريق أمام عودة هذا الرئيس إلى الحكم، بعد أن خرج منه بعد احتجاجات واسعة سنة 2019، أوصلت وزيره السابق للاقتصاد وحليفه السياسي إلى الحكم في فوز تاريخيّ على مرشحي اليمين في بوليفيا.
يبدو أن الشعب البوليفي صار على درجة واسعة من الوعي بضرورة الحفاظ على مدنية الحكم كاستحقاق شعبيّ مهمّ، خاصّة في ظلّ نجاح اليسار الاجتماعي في تقليص نسبة الفقر المتوارثة عن سنوات الحكم العسكري، بل إن الشعب البوليفي أظهر فهمه للحالة البوليفية التي اختارت طريقها إلى نوع تاريخي من التحول الاقتصادي الذي نتج عن الاستقرار السياسي لسنوات قليلة.
بصمة الإمبريالية في الانقلاب الفاشل
لا يمكن فهم الانقلابات وتفكيك أسبابها من دون الرجوع إلى جملة من الأسباب الموضوعية التي تحيط بها.
قد لايبدو تحالف اليمين مع القائد السابق لأركان الجيش البوليفي سبباً وحيداً للإقدام على مثل هذه المغامرة. فالرئيس الحالي شكّل منذ توليه وزارة الاقتصاد في بلده استثناءً تاريخياً في تخفيض فقر ثلث المجموع العام للسكّان إلى السدس، إضافة إلى توجّهه نحو تأميم الثروات، ودعم صناعات التعدين، التي تشكّل رافداً مهماً للاقتصاد البوليفي، خصوصاً تعدين الليثيوم ذا الطلب العالمي المتزايد.
لكن أكثر ما يميز العهدة الرئاسية للويس آرسي هو شجاعته في انتقاد الإمبريالية العالمية، وانحيازه لأميركا البوليفارية، في مواجهة قمم الأميركيّتين التي تسيطر عليها الولايات المتحدة الأميركيّة.
أحد أوجه الشجاعة أيضا ظهرت من خلال موقف الرئيس البوليفي من العدوان على غزة، إضافة إلى اعتماد سفيرٍ لدولته لدى السلطة الفلسطينية، من دون إقامة في حركة رمزيّة من المؤكّد أنها كلّفته الضغينة الإمبريالية على حكمه، ومحاولاتها تقويضه، وإن كانت الوسيلة عاجزة عن ذلك.
الشعب البوليفي منح لنفسه خلال ثلاث ساعات فقط الخيار في كسر الانقلاب وحماية ديمقراطيته ومؤسّساتها، وأحبط مساعي مهندسي الانقلاب في ضرب العمق اللاتينيّ والانتقام للإمبريالية، التي عنونت تدخّلها كما في كلّ مرة بوهم حماية الديمقراطية، والذي كشف بصمتها في هذا الانقلاب الفاشل، وأثبت أن بعض الشعوب لم تعد تنطلي عليها الخديعة الإمبريالية في تحويل الدول إلى تابعة اقتصادية وسياسية لها، ووأد التحرر في مهده التاريخي، الذي خلّد اسم سيمون بوليفار، ومنح اسمه لهذا البلد الذي اختار طريقه بعناية إلى الديمقراطية سبيلاً أوحد لتقرير مصيره وخياراته.