النهار

قوة "الوسطيّة" في مذهب "الإمام الأوزاعي" ما بين الأمس واليوم
المصدر: النهار - الدكتور سمير حسن عاكوم
قوة "الوسطيّة" في مذهب "الإمام الأوزاعي" ما بين الأمس واليوم
عايش الإمام الأوزاعي في حياته قبل 1317 سنة المرحلتين الأمويّة ومن ثم العباسيّة وتعامل معهما بحكمة العالم وحزم صاحب الرؤيّة.
A+   A-
عايش الإمام الأوزاعي في حياته قبل 1317 سنة المرحلتين الأمويّة ومن ثم العباسيّة وتعامل معهما بحكمة العالم وحزم صاحب الرؤيّة.
المرحلة الأمويّة كما العباسيّة انطلقت من خلفيّة عسكريّة قبائليّة بغطاء ديني، فالانقلاب العسكري الذي قاده كل من عبد الله بن سبأ، مالك الأشتر وحكيم بن حبلة قتل الخليفة عثمان بعد رفضه الخضوع لإملاءات تدمير قواعد الحكم والعمل المؤسساتي وبعد ظهور بوادر الدعم العسكري للخليفة من الولايات. من هنا كان المحرك السياسي الأساسي للأمويين وحلفائهم التعبئة عبر رفع شعار "يا لثارات عثمان" و"هيهات منا الذلة" خصوصًا بعد وصول يد زوجته نائلة المبتورة من قبل الإنقلابيين وقميصة المضرجة بالدماء، ليكون هذا المحرك بداية كسر قاعدة رفض التوريث السياسي وضمور "مؤسسة الشورى" في مرحلة بنائها وتطورها.
مقابل المرحلة الأمويّة أتت المرحلة العباسيّة بعد 89 سنة كحركة عسكريّة ثوريّة رفعت شعارات موالاة أهل البيت ومظلوميتهم عبر شعارات "يا لثارات الحسين" و"هيهات منا الذلة" لتحل محل الشعارات الأموية المماثلة وتعطي شرعية الحكم. وقد نجحت هذه الحركة بالقضاء على الحكم الأموي قبل أن ينتقل الى الأندلس، ومن ثم أبعدت حلفاءها الحسينيين و... وعمقت مسألة الحكم الوراثي وتضييع مبادئ العمل المؤسساتي لحكم الشورى الذي تكونت نواته في مرحلة الخلافة الراشدة.
أمام هول هذه الأحداث والتطورات، عمل الإمام الأوزاعي على إعادة بناء الهيكليّة الفكريّة والإيمانيّة بعيدًا عن تسلط قوى الأمر الواقع، فأعاد بناء الحالة الفكريّة وفق قواعد المنهج العلمي في مسلك متميز في منهجه من الاستدلال وتنوع مصادر العلم، أدلة الشرع وقواعده ومقاصده، الجمع بين مدرسة أهل الحديث والأثر في الحجاز والشام ومدرسة أهل الرأي في العراق، اعتماد مذهبه على الأصول المعتبرة لمختلف التوجهات، لتقوم أصول "مذهب الأوزاعية" على القرآن الكريم كمصدر رئيسي، السنة المطهرة والإجماع والقياس وذلك انطلاقًا من بيروت بعيدًا عن عاصمة الأمويين والعباسيين باستقلاليّة تامة وبعيدًا عن الضغوطات السياسيّة المعتادة... ولتتحول تدريجيًا الأوزاعية المنطلقة من بيروت إلى "مذهب الأمة" ويتصدر مذهبه بلاد الشام لمئات السنين، والأندلس لعشرات السنين. ويقدمه كبار أئمة المذاهب على غيره من المذاهب.
تمكن بحكمته ومقاومته السلميّة تغيير الكثير من المسار العسكري للسلطتين، رفض تولي منصب القضاء الأعلى، وأصر على استقلاليته الفكريّة والسياسية عن الأمويين ولكنه قبل بمناظرة القدري في عهد الخليفة هشام بن عبد الملك، وتمكن ببراعة من تفنيد عقيدته وإعادة تصويب المنطق الديني ببراعة لمفهوم الخالق والخلق، وأثنى على عدالة عمر بن عبد العزيز، كما أنه وقف موقفًا مشرفًا مع عم السفاح عبد الله بن علي بداية المرحلة العباسيّة، صدح فيه بالحق ولم يحد ولم يداهن معه، ولم يسمح بإعلاء شأنه المنتصرين على حساب التقليل من شأن بني أميّة وبيّن له أن تقربه وبعده عنه وعنهم مرتبط بصلاح أعمالهم وخدمة رعيتهم. أيضًا، ظهر ذلك في موقفه التاريخي في مواجهة والي الشام العباسي أبي جعفر المنصور دفاعًا عن مسيحيي لبنان ليلقب بشفيع المسيحيين و... وجد فيه غير المسلمين شخصية كريمة رحيمة، مدافعة عنهم في مواقف إنسانية، حفاظًا على الذمة وصيانة للدماء والأعراض من الفتن العمياء وسعيًا لنشر العدالة والسلام، فكان الناصح الأمين مع المحافظة على الكرامة والسلامة وعلو الجانب.. لم ينهزم الإمام الأوزاعي أمام إغراء المال بل تصدق به ومن أقواله "لو قبلنا من الناس كل ما يعطونا لهنّا عليهم" و"ما من شيء أبغض إلى الله من عالم يزور عاملًا".
فرض احترامه على السلطتين بواسطة حكمته ومقاومته السلميّة لتسمع السلطة نصائحه وليكون محل احترام وتقدير عند الجميع، عمل بمنطقيّة فضاء الأمة المتجاوزة للتقييد الجغرافي، المرتبطة بالفكر والوعي وحرية التواصل مع أصحاب العقول والتنقل، كما عمل بمنطقيّة "صحيفة المدينة" المنورة لإرساء العدالة والتنوع وخدمة المواطنين، وعمل بوصيّة الرسول في حماية الضعفاء من نساء وأولاد و...
تتطابق هذه المرحلة إلى حد كبير مع المرحلة التي نعيشها، فمرحلة الأنظمة العسكريّة التي تلت "سايكس بيكو" وفشل الأنظمة الملكيّة في التعامل مع مظلوميّة الشعب الفلسطيني وقضايا شعوب المنطقة قضت على منطقيّة "مذهب الأمة وروحها ومدنيتها وإنسانها"، والنمط العسكري المرتبط بالمشروع السياسي الإيراني الذي استحضره هذا الفشل مبهم الرؤية الحضاريّة المتوافقة مع أخلاقيّة ومصلحة الشعوب وغير متطابقة مع مذهب الأمة وروحها ومدنيتها وانسانها ورؤيتها الشاملة، شئنا أم أبينا المشروع العسكري وسيلة وتحوله لغاية بحد ذاته كارثة حضاريّة وإنسانية.
هذه المقاربة والمقارنة تؤكد أن "منهج الأوزاعية الوسطي" سعى لتحقق الانتقام لمظلوميّة عثمان والحسين وانتهاك أعراضهما من خلال الدفع باتجاه إعادة الاعتبار للفكر والإنسان واستعادة العمل المؤسساتي للدولة وفق معايير على قياس مبادئ ومصلحة الشعوب بعيدًا عن القبائليّة والتوريث السياسي والكره المقدس من هنا وهناك. الإشعاع الفكري والحضاري حاجة كيانيّة إنسانيّة، اجتماعيّة وسياسيّة لكافة مكونات شعوب المنطقة لإعادة إطلاق المشروع الحضاري المتلائم مع بناء عالم متجدد بالتنوع الثقافي، تشارك فيه شعوب المنطقة كأمة تحترم نفسها وكل مكوناتها، تسعى لتأخذ مكانها بين باقي الحضارات، ويكون "لبنان وطن انطلاق الرسالة المتجددة" وجمع وتفعيل نقاط التلاقي بين المتناقضات.
كان لخوض معركة "المقاومة السلميّة" للإمام الأوزاعي بحكمة ورصانة المبتكر الأثر البالغ في تقويم الانحرافات السياسيّة والمؤسساتية القائمة على كل المستويات في زمنه، والانتكاسة التي حصلت بموته وحرق مكتبته المبهم لا يعني أن هذا النهج عاجز عن الانطلاق من جديد في مرحلة سعي الكثيرين لاستحضار تاريخ مُجتزأ وشعارات على مقاس ساديته ومصالحه واستعلائه.
يسمح المشروع الحضاري المدني المنطلق من قراءة علميّة متأنيّة ومتكاملة للتاريخ بتوضيح الواقع وفتح مسار العبور إلى مستقبل واعد، ولتأخذ المشاريع العسكرية عندها دور العضلات المرتبطة بمصالح هذا المشروع وإدارته الحكيمة.
لنعيد ضخ الدماء في دورة حياة جسد بلدنا لبنان ومنطقتنا المتعافية على منطق التكامل "إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى" ولتذهب وحدها المشاريع العنصريّة والكره المقدس وأساطيره وشعاراته وتعبئته المدمرة إلى الجحيم.

اقرأ في النهار Premium