النهار

رواية تغريبة الأيزيدي ...مطالعات. تتمة(5)
المصدر: النهار - إبراهيم سمو - المانيا
رواية تغريبة الأيزيدي ...مطالعات. تتمة(5)
صائب خدر وغسان كنفاني... تقاطعات وجع إنساني أو مأساة؟
A+   A-
صائب خدر وغسان كنفاني... تقاطعات وجع إنساني أو مأساة؟
يحيلنا مشهد استسلام نازحي الغزوة الداعشية من الأيزيديين لمناورات" شبكات التهريب"، إلى رواية "رجال في الشمس" لغسان كنفاني، فما أشبه راهن الأيزيديين بحاضر وأمس الفلسطينيين، بل ما أشبه روح خدر المثقلة بوجع إبادة إنسانية، بروح غسان كنفاني، وما أقرب كل منهما في تراجيدية سرديته إلى الآخر، فها هم أولاء سليمان البعشيقي، فراس الشيخ، ايمان، الشيخ بركات وزوجته هوري وسواهم، يتطابقون في انجرارهم وراء "وليد أبو الجوب القجغجي"، مع انكباب أسعد، و"أبو قيس"، أو مروان على شباك العلّاس " أبو الخيزران"، وها قارب "جان السوري" ذا، يضاهي صهريج أبي الخيزران في الوظيفة والأداء، كما لا تختلف بهلوانيات "العلّاسين"، في الخساسة والجشع وخيبة الظن وسواها من القيم السوقية؛ فملمح جان ـ وهو يخطر ـ كقائد للرحلة، لكن بعد فوات الأوان: "انثقب القارب سيغرق القارب. ص 140"، ويكر في فرّه مثل فقمة على البحر: "ارموا أنفسكم، ارموا أنفسكم. ص 140"، يماثل كثيراً مظهر أبي الخيزران في "رجال في الشمس"، حين عاتب ضحاياه المُفطَّسين؛ جثثهم: "لماذا لم تدقوا جدران الخزان؟ لماذا لم تقرعوا جدران الخزان؟ لماذا؟ لماذا؟ لماذا؟".
تباشير ... أمل و مراد:
ينهض مراد وأمل كـ"طائر الفينيق"، من تحت أنقاض ما خلفته داعش، من إبادة وقهر وتهجير ودمار وحرائق مُسعَّرة. والسؤال ههنا هل تم ابتداع هاتين" الشخصيتين" بقصد توظيف ما يرتبط باسميهما من خصائص دلالية ـ لغوية متماثلة متداخلة، أم جرّاء صدفة صرفة أم على خلفية استنساخ شفيف عن واقع معاش؟. أيا كان الموقف، فـ"العَلَمان" أمل ومراد، قد يتقاطعان على نحو ما عبر مدلولات متنوعة، أو تتماهى إمارات مشتركة كثيرة لديهما لجهة التلميح من ثم إلى مبتغى مُترقَب أو قل مستقبل منشود.
قد يؤخذ على مراد وقوعه بعد الصدمة الحضارية تلك، التي تلقاها جراء احتلال شنكال وبعشيقة وبحزاني، ضحية اضطراب نفسي ـ سلوكي، يقوده أحياناً إلى التعميم والخلط حيث "يرى ويعتقد أن كل المسلمين هم دواعش!!. ص 211"، بيد أن القارئ إذا ما تمعن في عموم الحال، لن يسهو عن أن لمراد حضوراً دلالياً مؤثراً، يتجاوز حدود "عُقد نفسية" طارئة، بل قد تجتذب شخصية مراد قارئها ما يزينها من مآثر، تمثلت في تمسكه بحماس شبابي حيوي بترابه الوطني، وإصراره أيا كان الثمن على تحرير بلدته؛ فها هو ذا يشرح في فيديو متداول، خططاً محتملة لاقتحام المدينة، و"يقول: "يجب أن نحرر المنطقة نحن شباب كثيرون نضغط على القوات المهاجمة نقول لهم نحن نذهب لتحريرها إذا ما تقاعستم".ص 212 "، ويرسل صوراً التقطها عن بعد لضيعته المحتلة، "تظهر فيها البيوت منهكة والأشجار صفراء موحشة والشوارع مهجورة والطرقات الفرعية خاوية. ص 213" "، يذيلها ـ الهاء تعود إلى الصور ـ بالعبارات التالية: "سأعود اليك يا حبيبتي... فالشوق إليك وطن والفراق عنك موت. ص 213 "، أو يعلق على مشهد مصور لبعشيقة، مثقل بالفوضى والخراب والحواجز الترابية، وقطع متناثرة من مقتنيات البيوت المسروقة: "سنعيد الحياة لهذه المدينة وستكون أجمل من ذي قبل. ص. 224"، وينجذبُ وأملَ حين يدرك مدى فاعلية دور وسائل التواصل الاجتماعي، في تحشيد أيزيدييه في الداخل والخارج لقضيته، فضلاً عن استقطاب المناصرين من شرفاء المكونات الأخرى في العراق، إلى استحداث صفحة فيسبوكية، كـ"تقنية "بارعة في استمالة القدرات الشبابية من جهة، وبذر آمال العودة لدى النازحين والمهاجرين من جهة أخرى، فيلاحظ ما إن ينشر صورة معبرة، الإقبال الكبير من متحمسي قريته في الداخل والخارج.
أما أمل، فتبهر؛ إذ تسجل رغم حداثة سنها، مواقف حازمة حاسمة يعجز عنها كثير من قادة وسياسيّي العراق، فتصمم، وبينما المنطقة لمّا تنته بعد من التمشيط النهائي، وسط ذهول قروييها: "بأن يدفن الأبوان في الضيعة في الأرض التي تبزغ عليها شمس التحرير. ص 224"، وتنتفض متمردة، على إرادة كبار المنطقة من الوجهاء ورجال الدين وأقاربها:
"لن يدفن والداي إلا في بعشيقة، أما بخصوص جثمان أمي فسيبقى في المستشفى حالياً، أما جثمان أبي فسيأتي بعد ثلاثة أيام ولا أقبل أن يتدخل أي مخلوق في قراري هذا. ص 225"، ثم تستشرس كلبوة جريحة في وجه حفار القبور: "قلت لك أريد أن أحفر قبراً واسعاً لهما. ليس قبرين منفصلين. أردم الهوة بينهما. ص 232".
هذه أمل، تبدو وحزن فقد أبويها وتشردها يملؤها، متناغمة مع ذاتها وقدراتها ومحيطها، قوية ولعلها حين "أحضرت شتلة زيتونة طرية غرستها وأهالت التراب عليها عند رأسيهما. 233"، كان مرادها، أن تبرهن على أهليتها ومراد وشباب أيزيديين كثيرين، على مواجهة الحياة بحكمة وأمل.
وختامها خدر الروائي وتفاصيل:
فضلاً عن أن صائب خدر، مثل الأيزيديين لدورة تشريعية في البرلمان العراقي، فالروائي محام، لكن يبدو أن محاماته ولوائحه ودفوعه القانونية والحقوقية، وكذلك نيابيته البرلمانية لم تفده كفاية، فقرر أن يرافع بطريقة أخرى، مادامت القنوات الرسمية العراقية والإقليمية والدولية، باتت لا تتعاطى مع القضايا الوطنية والإنسانية، الا بمعايير فئوية أو شللية أو نفعية أو اعتباطية.
مال خدر إلى الأدب، وأتيح له أن ينفتح على مساحات أوسع من حرية، فغرد في تغريبته هذه، أو رافع بطريقته الخاصة، يمزج الواقع والخيال، ويفرج عن مكنونات مكبوتة، مؤرِخاً بذلك لمظلومية أيزيدييه، جاهداً أن يحول تلك المظلومية إلى "قضية رأي عام".
وسؤال المختتم هنا: إلى أي مدى استطاع صائب خدر، أن يرافع عن تلك المظلومية؟
الرواية في كل الأحول، ورغم عثرات صارخة في اللغة والسرد، يؤمل تداركها في طبعات جديدة، جديرة باكتشاف عوالمها وقراءتها.


الكلمات الدالة

اقرأ في النهار Premium