سيبقى شعورٌ عالق لا يمرّ! كأنّ الزّمان حينها توقّف ليترك بصمة في داخلي، وليجعل روحي يائسة بائسة. منذ تلك اللّحظة، لا تزال الغصّة في حلقي، ولا أزال حتّى الآن عاجزًا عن شرحها وتفسيرها. كلّ ما أعرفه هو أنّ إرادة الله فوق أيّ اعتبار، فوق أيّ وجع، فوق أيّ غصّة أو حسرة، فوق أيّ فقدان. كيف لا وهو بقلوب المحبّين غفورٌ رحيمٌ؟! فكيف أصدّق أنّ إرادته شاءت لي وجعًا وفراقًا؟!
فارقت الكثيرين، ولكن لم يخرق جدار روحي وجع فراق أكثر من فراق جدّي! فمنذ أن دبّت فيّ الحياة، كان وجوده نورًا يضيء حياتي فرحًا وبركة ومحبّة. أنا لست مغرمًا بتاريخ أوجاعي حتّى أبقيها في ذاكرتي، لكنّك حين تفقد وطنًا كبيرًا، فيه كلّ الحبّ، الدّعم، الأمان، الحنان،... حتمًا ستتألّم.
أصبحت أتجرّع الألم في كلّ زيارة لبيت جدّي؛ هذا البيت الّذي اكتسب روحه من عطر جدّي، من حضوره، من حديثه، من محبّته ولهفته علينا، كما يقول قيس بن الملوح:
"وما حُبُّ الدّيار شغفنَ قلبي،
ولكن حبّ من سكن الدّيارا"
ففي بيت جدّي، كلّ شيء له طعم مختلف، الطّعام الشّهيّ، "الشّوكولاتة اللّذيذة"، البسكوت والرّاحة، المداعبات، كسر القوانين والأنظمة، القبلات والأحضان، والهدايا، حتّى "شعرات ذقن" جدّي الحادّة وهي تنغرس بحنان على خدّي الطّري...
كم كنت أستمتع في كلّ لحظة أقضيها في بيت جدّي قبل وفاته! هنالك حنين لا يوصف بالكلمات ولا ينتهي. كم كان جدّي حنونًا! كان يحبّ الجميع والجميع يحبّونه، وبيته مفتوح دائمًا. لا أذكر أنّي نمت في منزلهم إلّا واستيقظت على صوته ينادي:
"يلّا يا شباب، قوموا السّفرة جاهزة، قوموا عالصّبحيّة". لم أكن أعلم أنّه سيأتي يوم وتصبح هذه اللّحظات ذكريات بعد رحيل جدّي، كأنّه ذهب وأخذ معه مفتاح سعادة هذا البيت.
وها أنا اليوم أحنّ إليك يا جدّي حنينًا لاذعًا، والشّوق يأكلني من الدّاخل، فما بين الماضي والذّكريات إلّا تشابه وكأنّهما صندوق قديم. ما إن يتأكّد المرء أنّه أحكم إغلاقه حتّى تأتي نسمة هواء، فتُداعب ما بداخله من أشياء، فتتبعثر وتصعب إعادة ترتيبها أو وضعها في الصّندوق مجدّدًا.