الوقت واحد من المفاهيم الأكثر تعقيدًا، فهو يتدفّق بشكلٍ لا رجعة فيه، ويؤثّر بشكل كبير على تجربتنا في الواقع. أمّا الذّاكرة فهي القدرة على تخزين واسترجاع المعلومات والتّجارب الّتي قمنا بها سابقًا. هذان المفهومان يرتبطان ارتباطًا وثيقًا، إذ يمثّل الوقت إطارًا زمنيًّا ينظّم ترتيب وتسلسل الأحداث في ذاكرتنا. كذلك تتأثّر ذاكرتنا بتأثيرات الزّمن حيث تتلاشى بعض الذّكريات، فمن هنا نتساءل: هل من حادثة جرت معي ثمّ تحوّلت إلى ذكرى مؤثّرة لا تنتسى؟
في حياتنا، نمرّ بمجموعة متنوّعة من التّجارب واللّحظات الّتي تترك أثرًا في داخلنا حيث تتنوّع هذه التّجارب ما بين الحزن والفرح، وتتشكّل بمرور الوقت لتصبح جزءًا لا يتجزأ من هويّتنا وتجربتنا.
من إحدى الذّكريات الجميلة الّتي تظلّ راسخة في ذهني، والّتي تركت أثرًا في داخلي، هي كما نقول باللّغة العاميّة: "لمّة العائلة"، لمناسبة عيد الأضحى تحديدًا. في الصّغر، الحياة كانت أكثر هدوءًا وبساطةً، من حيث المسؤوليّة الّتي تتكاثر مع مرور السّنوات، وكذلك وضع بلدنا الحبيب الّذي حرمنا العديد من العادات الجميلة، فاستبدلها بالتّوتّر والأرق الدّائمَيْن؛ فعندما كنت صغيرة، كانت جمعة العائلة دائمًا في منزل جدّتي ـ والدة أمّي- ليلة العيد، حيث نقوم جميعنا بتناول العشاء المؤلّف من أشهى الأطعمة، والحبّ يملأ الجوّ، ومن ثمّ نخرج أنا وأولاد خالاتي وإخوتي كي نلعب بالألعاب النّارّيّة ونمضي بعض الوقت بالفرح والاستمتاع سويًّا.
أنا شخصيًّا، أحبّ منزل جدّتي، ففيه أمضيت طفولتي، بين حيطانه وأثاثه الّذي يوحي بالماضي والزّمن العريق الجميل، بتحفه وتصميمه الأثريّ الّذي لا يزال صامدًا مع مرور السّنين. ففي عصرنا اليوم، كلّ هذه العادات والتّقاليد لم تعد موجودة أو قد تكون موجودة بقلّة؛ فالأولاد لم يعودوا يهتمّون لهذه المواضيع مع تطوّر التّكنولوجيا الّتي سيطرت على عقولنا وحياتنا، مع العلم بأنّها أجمل ذكريات؛ فليت "الصّغر" يعود يومًا والحياة تتحسّن كي نعود ونشعر بفرحة العيد، ونستمتع بوقتنا مع العائلة الّتي تظلّ دائمًا وأبدًا الأهمّ.
بالإضافة إلى ذلك، من إحدى الذّكريات الحزينة الّتي مررت بها حادثة جرت عندما كنت ألعب في دار المنزل مع بعض الأصدقاء، حيث شاء القدر أن أسقط من الدّار إلى الحديقة. فالأصدقاء نهضوا لإسعافي، ثم بعد مرور القليل من الوقت، بدأوا بالفكاهات والمزاح مع بعض الّتنمّر والكلام الجارح الّذي لم يكن له من حاجة أو لزوم في ذلك الحين. فهذا التّصرّف قام ببناء أفكار بشعة في ذهني عن نفسي مسبّبًا قلّة ثقة في النّفس، وتغيّرًا في نظرتي إلى نفسي. فالحقيقة أنّ هذا النّوع من الذّكريات الّذي يعلق بذهننا يسبّب أرقًا، وأحيانًا بعض المشاكل النّفسيّة؛ فلماذا التّنمّر والكلام الجارح؟ مع العلم أنّني كنت موجوعة في ذلك الوقت من بعض الجروحات بسبب حالتي، ولكنني طبت بسرعة والحمدلله. ونظرًا إلى التّطوّر العلميّ والتّقدّم في عصرنا اليوم، فالتّنمّر موضوع لا حلّ له، وهو دائمًا موجود بين أفراد المجتمع، على أمل إيجاد حلّ يحدّ من انتشار هذه الآفة، الّتي تؤذي الكثير من النّاس، وتسبّب مشاكل صحّيّة ونفسيّة.
من هنا، يجب علينا تقبّل بعضنا البعض بالرغم من اختلافاتنا، فلا أحد يعلم ظروف الآخر الّتي حكمت عليه. فلنعمّم السّلام لحياة أفضل وذكريات أجمل.
في الختام، تظلّ العلاقة بين الوقت والذّكريات مثيرة للتّأمّل؛ فالوقت يمرّ بسرعة مع تغيّراته المستمرّة، ولكن الذّكريات تبقى شاهدة على تجاربنا ومشاعرنا وأحلامنا. فكلّ لحظة نعيشها تصبح ذاكرة في الزّمن، تتغيّر وتتشكّل مع مرور الوقت، ممّا يمنحنا الفرصة لاستخلاص الدّروس والتّعلّم من تجاربنا السّابقة.