النهار

"عَلَينا نَحنُ ٱلأَقوياءَ أَن نَحتَمِلَ أَوهانَ ٱلضُّعَفاءِ"
المصدر: النهار - الاب ايلي قنبر
"عَلَينا نَحنُ ٱلأَقوياءَ أَن نَحتَمِلَ أَوهانَ ٱلضُّعَفاءِ"
*"فَليُرضِ كُلُّ واحِدٍ مِنّا ٱلقَريبَ لِلخَيرِ لِأَجلِ ٱلبُنيان".
A+   A-
*"فَليُرضِ كُلُّ واحِدٍ مِنّا ٱلقَريبَ لِلخَيرِ لِأَجلِ ٱلبُنيان".
نعيش في عالم يتنكّر فيه كثيرون للآخَرين، ويَسعون بكلّ قواهم إلى خيرهم الذاتيّ ولو على حساب سِو اهم.
إنّه عالم الأنا المتورِّمة التي لا ترى الآخر ولا تسمعه ولا تبالي به، لا بل لا تعترف بوجوده.
إنّه عالم "الأقوياء" الذين يرفضون كلّ امرئ ضعيف ولا يحتملون "أوهان الضعفاء"ـ إلى حدّ التفكير بضرورة الانتهاء منهم بأيّ طريقة، أي بإنتاج "هولوكُست" تُريحهم من هؤلاء لكي لا يبقوا "مِرآة" تعكس حقيقة ضعفهم وهربهم منه. إنّهم يسعون إلى إرضاء أنفسهم ليسَ إلاَّ.
إنّه عالم الضعفاء حقًّا، الذين لم ينزلوا يومًا إلى أعماقهم ليَروا ذواتهم على حقيقتها، ويعترفوا بِما هم عليه من ضعف ووهن وعطب. إنّهم يرفضون الاعنراف بما هم عليه، يتنكّرون له. لذا، تراهم يقبعون في الظلمة بدلًا من "خروجهم" إلى النور الحقيقيّ، نور المعرفة والحقيقة والجرأة والانطلاق إلى الأمام.
مَن يعرف أن يلِج إلى أعماقه، يستطيع أن يغوص في أعماق الآخَرين بحبٍّ وأن يعرض عليهم المُساندة كما فعل يسوع الناصريّ ويفعل كلّما استنجدنا به: "تعالوا إليّ يا جميع التعبين والثقيلي الأحمال، وأنا أُريحكم. إحملوا نيري عليكم، وتعلّموا منّي، لأنّي وديع ومتواضع القلب، فتجدوا الراحة لنفوسكم"(متّى 11 :28-30).
"فَليُرضِ كُلُّ واحِدٍ مِنّا ٱلقَريبَ لِلخَيرِ لِأَجلِ ٱلبُنيان": هكذا صرّح بولس الطرسُوسيّ يومًا. وأضاف: "يَجِبُ عَلَينا نَحنُ ٱلأَقوياءَ أَن نَحتَمِلَ أَوهانَ ٱلضُّعَفاءِ، وَلا نُرضِيَ أَنفُسَنا" كلمات بنّاءة وحُبّويّة لا نقدر أن نتجاهلها إن كُنّا إنسانيِّين. الإرضاء يعني حبّ القريب والإحساس به والتعاطف معه والتضامن والدَعم. مَن يقدر على هذا غير الأقوياء في الحبّ والأغنياء منه وبه؟
إرضاؤنا للقريب هو عمل بنّاء لأجل الخير العام لا الخاصّ وحَسب. وهذا يتطلّب "ٱتِّفاقَ ٱلآراءِ في ما بَينَنا"، ليَسود الخير العام.
* ﴿ قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَىٰ شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَىٰ سَبِيلًا﴾- الإسراء 84

هل نقبل بعضنا بعضًا بسهولة وبساطة وعفويّة؟ ولِمَ؟
وضَع البُوذِيّون لنا الإطار حين يُغيظنا الآخَر، بحيث يدعوننا إلى التمعُّن في انزعاجنا منه بالإشارة إلى أننا وإيّاه لدَينا البُنى الذهنيّة نفسها ونتصرّف مثله. حتّى إن تصرّفه المُزعج يكون بمثابة مرآة تعكس ما نحمله نحن أيصًا في داخلنا.
وفي ملاحظة سطّرتها امرأة ركّزت على ذاتها، تفيد أنّها وعَت صفاتها الحسنة بدَفع من الناس الضعفاء إلذين يفتقدون الحسنات. "آنئذٍ فهمتُ بشكلٍ منهجيّ أنّهم ضحايا أنفسهم أو قدَرهم، وأنّه ما عليّ حقًّا أن أشتكي منهم". وعليه، إنّ المحدوديّة هي عنصر مشترك بين سائر الناس. وانزعاجنا منهم يجب أن يدعونا إلى التساؤل لِمَ ننزعج. لنكتشف أنّ هذا يُرجعنا إلى أمر ما، فينا، يُزعجنا.
إذن، يبدأ قبول الآخر إنطلاقًا من قبول الذات. فإذا أردت أن أُحوِّل ضعفي إلى قوّة، عليّ أن أُعامل نفسي بعطف لا بالقسوة، وأن أكون في سلام مع ذاتي. التعاطف مع الذات جوهريّ لأصِل إلى ما تقدّم. من هنا السعي إلى التنشئة أو إلى التدرُّب أو إلى التفويض لكسب جولة ما.
لا بل أكون أحيانًا جبانًا لأعترف بضعفي. ذلك أنّ القوّة الحقّ تكمن في أن أحيَا بحسَب أذواقي وخياراتي وشغفي. أي أن أحيَا لذاتي لا لغيري. أن نؤذي أنفسنا أمر يقطع الأنفاس! كيف يمكن استعادة "أنا" لم توجد البتّة؟ كيف يمكن أن أجد ذاتي إن كنت كائنًا فارغًا؟ وقد تكون الهشاشة فخًّا لاصطياد الأكثر ضعفًا.
ومَن هو الآخَر المقصود؟ بدايًة هو كلّ مَن تتعامل معه من أهل البيت، ثمّ الأقارب والجيران والأقران وزملاء الدراسة والعمل والزوج/ة والأولاد، وكلّ مَن تتعامل معهم على مدار يومنا وحياتنا، لابل نفسنا. وإذا فصِّلنا أكثر، نجده في "الآخر في الهوية وفي الحمولة الإيديولوجية وفي الدين وفي الموقف السياسي أو في الذوق الفنّي أو في المدرسة النقديّة الأدبيّة أو في المنهج المعرفيّ أو في الجنس أو اللون. هذه هي ساحة الحياة: قوامها الآخر. إذن الاختلاف هو الذي يسود الحياة ، الاختلاف هو الأصل"[ د. محسن مشكل فهد الحجاه، التسامح وقبول الآخر في القران الكريم، مركز دراسات البصرة والخليج العربي.].
نتقبّل الآخَر حين نُصغي إليه ونسمعه ونتحاور وإيّاه، وحين نقبل أفكاره وآراءه ومُعتقداته وطبائعه وسلوكه وكلّ ما يصدر عنه للتعايش معه لا لتغييره.
هذا، وعرّفت الأونيسكو التسامح بين الناس كالتالي: "يعني أن تكون للإنسان الحرية في التزام ما يعتقده، وقبول حقيقة أنّ البشر -بحكم الطبيعة- مختلفون في صورهم وأوضاعهم وكفاءتهم وسلوكهم وقيمهم ولهم الحق في أن يعيشوا في سلام، والتسليم بأن عقائد إنسان ما يجب أن لا تفرض على الآخر"[ المرجع السابق.].
من هنا، إنّ "حذف الآخر يعدم رسالة الدين والفلسفة ويجرّد الوجود من كل أقليّة بشرية أو من أكثرية ، فتضيق الحياة بالحذف المستمرّ، وبما إنّ الآخر صيرورة تاريخية معقّدة فهو لا ينزل من السماء ولا ينبثق من الأرض وإنما يتكوّن من خلال التاريخ"[ المرجع السابق.].
"لذلك ٱقبَلوا بَعضُكُم بَعضًا كَما قَبِلَكُم ٱلمَسيحُ لِمَجدِ ٱلله".




الكلمات الدالة

اقرأ في النهار Premium