بحبرٍ أحمرَ يكتب التّاريخ عن تاريخ سفّاحين حاولوا مرارًا اغتيال حبيبي، الّذي لا زال ينزف، لكن سفّاحيه أحياء، يتغذّون على جوع الفقراء وأنين المظلومين، ويحتجزونه في زنزانةٍ مظلمةٍ تُجنزر بابها سلاسلُ ضخمةٌ، وتُطبق على فمه أكثر من مئة وثمانية وعشرين يداً لتمنعه من الإجهار بالحقّ، وبحلقٍ أحمرَ يصرخ حبيبي من تحت تراب أرواح الأرض وسط صُمٍّ، فقط عن أصواتها، لأنّهم يعرفونها عندما زرعوها بذار شهادة لجنونهم وكبريائهم.
بحبرٍ أخضرَ يتلوّى حبيبي فوق جبالٍ مستغيثة، فقد دنا وقت إعدامها ظلمًا، ولم يبادلها أحد الوفاء. بمنديلٍ أخضرَ تلوّح لأمواجٍ رافقتها دهورًا، فوجدتها ما عادت تعكس زرقة السّماء، بل تسمّمت بقيء السّلطة وشهوة المال.
بحبرٍ أبيضَ أخبر الله عن حبيبي الطّاهر الّذي تناتشته مخالب الشّياطين وأباحته سلعةً تباع بالمزاد للأثرى طمعًا. أخبره معاناته ولعناته. ومؤامرات حيكت ضدّه. أخبره عن تجّارٍ الموت وعبّاد الأصنام. أخبره عن مغارته المتواضعة الّتي تحوّلت إلى مراكز خدماتٍ لكلّ شيء إلّا للإنسان. أخبره عن خفَر طهارَته، الّذي شوّهته وقاحة "عذارى" لم يتبقّ من أنوثتهنّ سوى صورة مكرّرة. أخبره عن لوحته البديعة الّتي اختنقت ملامحها تحت خربشات تواقيع الاتّفاقيّات. أخبره عن واديه العابق ببخور القدّيسين الّذين ضاع ذكرهم ورنيم مزاميرهم بين ليلى ومشروعها وما تبعه من أذواق ٍ "ثقافيّة" من نوعٍ آخر. أخبره عن رجالٍ أبطال ما عاد خيالهم يُلمح إلّا في ذاكرةٍ ما، لأنّ ذكوره تحوّلوا إلى دمى متعدّدة "الأشكال" والأدوار. أخبره بأبيضَ لا يشبه سواد الإعلام ولا زيف الحرّيّة ولا نفاق المتشدّقين بأكاذيبَ على عدد انتماءاتهم ورشواتهم.
أخبره بأبيض حبّات الصّلوات المرتجفة في تمتمات من عاصروا حبيبي وعرفوه. أخبره بالأبيض لأنّه وحده يستطيع قراءة الحقيقة عمّن خنقوا التّاريخ وهجّروا الإنسان وشوّهوا طهارة أرضٍ تنفّست رئتاه هواها، ووطأت قدماه أرضها، وجعلها وقفًا له. أخبره عن حدقة عينه، عن حبيبي، وكيف باتوا يخجلون به وهو ملك جمال الكون، ويتقاذفونه كرةً من ورق ليدوسه من نصّب نفسه إلهًا على البشريّة، وأستودعه دمه الأحمر وأرزه الأخضر والأبيض راية فخرٍ وصمود، عالية الجبين، لعلّ روح الله يتسلّل وسط نسائم رفرفات رموش حبيبي، فيلمس صوّان قلوبٍ تدقّ ولا تشعر، أو يهزّ مضجع ضمائر غلبها نعاس الكهف..