سليم الأسطا*
أقف اليوم أمام ذكرى خاشعة،
ذكرى رجل كان ملء الزمن،
توارى إلى الأبد،
لكنّ ذكراه ستبقى ما بقي الأبد.
إنّها سنّة الأيّام، والزميل الذي نستذكره اليوم شيخٌ من شيوخ المهنة، تلك الكوكبة التي كان لها فضل تسلّم الشعلة من يد القدماء المؤسّسين وتسليمها إلى مَن هي في أيديهم اليوم، بعد عمر من العمل المضني الطويل.
برحيله، ينطوي جيل من ذاك الرعيل الذي تعلّمنا منه أسرار المهنة، ومعه تُطوى صفحة مُشرقة من
كتاب المحاماة.
جان غاوي
محامٍ أصيل، ناضل وأعطى حتى الرمق الأخير من حياته، مفطور على حب القانون. بدأ محاميًا وانتهى محاميًا، وبين البداية والنهاية حكايات ألق وذكريات ومآثر أخلاق.
إنسانٌ كرّم العصاميّة منذ أن دخل النور شعاع عينيه، حتّى دخل جسده غيبوبة الداء الأخير.
إنّ أبرز ما تميّز به هذا الرجل حسّ مهنيّ خارق، وذكاء فائق، وألمعيّة فريدة مشفوعة كلّها بثقافة عالية ودأب على العمل بلا كلل، اضطلاعًا بمسؤوليّات المهنة التي اختارها، فاتّحد بها واتّحدت به رسالةَ عمر ومتعة، حتَّى غدا مدرسة متينة المداميك، قائمة بذاتها، تخرّج فيها العديدُ من ألمع الزملاء، الّذين كان لهم المعلّم والقدوة.
عنيداً كان، حصيف الرأي، صلب المراس في طلب الحق، مدقّقًا، متبحّرًا في الغوص لاجتراح الحلول. ذهن حاضر، خاطر سريع، وبراعة في الإخراج وقوّة في الإقناع.
جان غاوي
الرجل الذي عاش عقوده التسعة في عمر الجسد، ناسكًا في معبد المحاماة، مقيمًا فيه، راهبًا في صومعتها، والصادق الأمين على منبره.ا
تلك السنديانة المتجذّرة في الحبر والورق، هيهات أن تنحني لها ذراع، وستبقى راسخة في كلّ خاطر وفي كلّ وجدان، حاضرة في كلّ سطر من السطور التي يكتبها المحامون بدم العيون والأفئدة.
أمّا الذين أتيح لهم أن يقربوا من جان غاوي المحامي من كثب، فقد عرفوا فيه القانوني الضليع، والبحّاثة الذي يدقّق في خفايا الملفّات، ويلجُ بثاقب نظره إلى صميم الموضوع، ويرى بسهولة العقدة الأساسيّة في كلّ نزاع، فيعالجها بإمعان على ضوء القانون والفقه والاجتهاد، ويعرض نتائج قناعاته في لوائح خطّية، هي آية في الوضوح الفكريّ والإتقان العلميّ.
نحتته الأيّام من خيرة معادنها، ضميرٌ حيّ، صداقةٌ خالصة. صان شرف المهنة وحرمة الحرف وكرامة الكلمة. وهو الصديق الحريص على صداقاته، الوفيّ لصحبه، رجل المواقف الجريئة والصلبة في موقع المسؤوليّة، والدرع الأمينة في ملمّات المهنة ومحنها.
جان غاوي
الحرّ الأبيّ، لم يمش في ركاب أيّ سلطان، لم يستهوه المجد السياسي بقدر ما استهواه المجد المهني.
لم يساوم على حساب مبادئه. ما هانت نفسه أمام مغريات الحياة. رفضها كي لا ينساق في تيّارات أو
توجّهات تتنافى مع قناعته.
أيّها الغائب الحاضر
ستبقى ذكراك حاضرة في كلّ قلب وفي كلّ بال، ولن يقوى عليها أيّ نسيان، حتّى ولو طال الغياب وفرّقت بيننا الأقدار والمسافات.
لأنّني عرفتك، حاولت أن أنقل شهادة حق على استحقاقاتك الكريمة التي نذكرها عنك بفخر واعتزاز، وهي حقّ علينا في ذمّة التاريخ.
إن رحلت، فأنت باقٍ بين زملائك ومحبّيك، قيمًا وسخيّ مناقب، باقٍ في زوجتك المرأة الفاضلة، باقٍ في أنجالك جوني، مكرم وريتا.
عزاؤنا أنّ شعلة المحاماة لن تنطفئ في بيتك، طالما أنّ المشعل سينتقل إليهم ليكملوا المسيرة. فأقول، أنتم أبناء وديعة مقدّسة، حافظوا عليها، وإنّني على يقين بأنّكم ستحافظون.
في ذمّة الله أيّها الغائب الكبير، وسلام عليك في الخالدين.
وادي شحرور في 28/7/2024.
*نقيب المحامين الأسبق