تركت بصرها يتنزه في الفيافي.. وهي تعجن أفكارها بالسماء الملبدة بغيوم الغم بعد أن عطلت رؤيتها للمستقبل المجهول.
انتابتها مشاعر متضاربة لما تخفيه أمواج تسونامي الصاعدة والهابطة لمسار حياتها، وما تركه هذا اليوم العاصف المعربد برعوده وبروقه عقب غيوم سوداء زادتها كآبة لما هي عليه.
أرادت العودة إلى نقطة الصفر إلى دفء لحظات الطفولة والدراسة وهي مستلقية على السرير تتصفح إعلانات التوظيف في الشبكة العنكبوتية.. هزت أشرعة الذكريات.. تسللت إلى حقيبتها الموضوعة على الطاولة بجانب المزهرية آخر هدايا زفافها التي لم تعرف طريقها للبيع.. وفرشت على أرض الغرفة شهاداتها التي ذيلت بالامتياز.
كانت نهمة للمعارف، فلم تكتف في تخصصها، بل زينتها بتخصصات إضافية في أعلى مراتب الدرجات العلمية.
تساءلت: كيف للإنسان الحر أن يحيا بدون عمل؟!
كبل الحزن حركتها وترك سؤالها يولد ألف سؤال...
الآن تزداد قناعة أن رياح الجوع مُهِرَ بها، كأمثالها من غطت سماءهم السحب السوداء وهم يحاولون فتح ثغرة من نور على جدار الحياة الموشحة بالذل.
عندما تبسمت الحياة في وجه زوجها وحصل على الوظيفة الملعونة التي لم تتجاوز أشهراً معدودة، قرراً اقتحام القفص الذهبي قبل أن يرمي بهما القطار على عتبة الأربعينيات.
علمتها الأيام أشياء كثيرة تقشعر لها الأبدان، ويشيب لها الأطفال قبل الفجر.. أشتد غضبها وهي ترى العاصفة تدمر كل شيء حولها ولا تجد جواباً لأسئلتها المتوالدة.
صعب عليها تحليل ما ترى وهي على سفينة الحياة السريعة التي أرادت أن تكون قبطانها، فأخذت تتأمل شهاداتها التي نثرتها في الصالة، وتركتها تسبح بدموعها التي انهمرت بغزارة، وأخذت ورقة سطرت عليها بعض الكلمات لوالدها المعوّق:
"ليس لدي ما آكله يا أبي، اختصرنا الوجبات إلى وجبة واحدة بعد أن تركتكم، وعندما يتيسر الحال نضيف وجبة على وقع الزغاريد والفرح.. أنا مستعد أن أرحل إلى منطقة بعيدة لا يعرفني أحداً فيها لأحترف الشحاتة خير من هذه الشهادات التي جلبت لي ولكم الجوع.. الفقر ذئب يا أبي.. الجوع الكافر افترسنا يا أبي.. كيف أتحمل أن أراك وأنت ملقى على السرير في زاوية الغرفة باتجاه أشعة الشمس المتسربة بألوانها المختلفة إلى جسدك النحيل، منتظراً اللحظة التي أعينكم فيها.. أعرف أن لا قلب كقلب أمي سيرعاك، ولا حضن كحضنها سيخفف أوجاعك، ولكن علي التزام تجاهك، فكيف أتحمل كل ذلك وأنا أسيرة لا أستطيع عونك، وأنت سندي الذي انتظر لحظة تخرجي بفارغ الصبر؟؟"
ما هذا الابتلاء يا ربي؟! سنوات وأنا ألهث خلف مصدر رزق، وأخوتي يتضورون جوعاً وعيونهم شاخصة نحوي كلما دلفت باب البيت، فكيف الحال بهم بعد أن تركتهم؟!
أجمع أحطابك وأوقد نارك يا زمن، ها أنت تبعث لي مرة أخرى ليلاً كئيباً... على أعتابه أقف مفجوعةً منهارة القوى، ألا يكفي مرض والدي، لتمنحني سعير الحياة دفعة واحدة؟!
هذا زوجي تصعد روحه إليك يا الله بعد أن صال وجال طول البلاد وعرضها بحثاً عن فرصة عمل، لينال الشهادة على أيدي قراصنة الطرق الذين لم يجدوا بحوزته ما يغري، غير هويته التي كانت سبباً لإزهاق روحه.
لمن أسكبُ أسراري غيرك يا عالم الأسرار.. ليت لي قلبٌ عاقر لا أحلام له ولا مشاعر.
قلبي في قلب حزام ناسف في زمن لا صوت يعلو فيه على أصوات الضباع التي تقتات على الجيف أينما وجهت وجهك تجدها أمامك.
دكتوران ضاقت بهما البلاد بما رحبت، دفع أحدهما حياته للإصرار على البقاء والآخر لازال يلملم شتلات ظنها وروداً.
لم يعد يعنيها ما يدور حولها.. اتخذت من الحياد نهجاً لمسار أيامها القادمة في قلب الحرب الدائرة التي عصفت بالبلاد، خصوصاً بعد أن وجدت فرصة عمل لا يفي عائده بإيجار قبو لتلم شمل أسرتها فيه.
توشحت بالكبرياء وسارت في دروبها الصعبة بعد فقدان زوجها.
ظلت تسير أسيرة الهم والغم الذي أضناها وعلى صدرها طفلتها بقمطتها الممزقة:
"يَا رَبِّ مَا حِيلَتِي فِيهَا وَقَدْ ذَبُلَتْ
كَزَهْرَةِ الرَّوْضِ فَقْدُ الغَيْثِ أَظْمَاهَا"*
بدت مستسلمة لواقع مشحون بالأحداث المفجعة، فعملت على رفع الحواجز الخرسانية حول بصرها وبصيرتها لتحقق سعادتها بعيداً عن مجتمع النفاق والانفصام، تاركة الأسئلة عالقة في الهواء بدون جواب.
حاولت اغتيال القلق وتمزيق جسده الشوكي، لكن الوضع تجاوز مخدع أحلامها بعد معرفتها حقيقة واقعها والاتكاء على أوهام كاذبة...
بثورة غضب انتزعت نفسها من أحضان الوهم الناعم، بعد أن خارت قواها من المقاومة، وغادرت أحلامها الوردية بسرعة جنونية حاملة همومها وطفلتها إلى شرفة أسطوانة الغاز المفتوحة وبيدها شعلة صغيرة تفي بآخر أحلامها.
* - من قصيدة الأرملة المرضعة للشاعر معروف الرصافي