قومي يا بيروتَ من تحت الرّدم والرّماد.
اخلعي عنك ثوب الذلّ، والموت والوجع، وامسحي دموع الظلم والغدر والدّمار.
قومي من تحت الردم كزهرة في نيسان.
إن الثورة، إنّ الثورة تُولد من رحم الأحزان.
اليوم، جئتك يا بيروت… وحيدة.
فنجان قهوة، قلم وورقة في مقهى قديم دافئ، وصوت فيروز، وجلسة هادئة.
أحلم…
كلّ شيء من حولي يحدّثني عنك، كأنّ الكون، الأماكن والصّور قد اتفقوا ضدّي.
بمفردي، بلا كتفٍ ثالث، وأنا مع ضعفي وقوّتي، ثباتي وانهياري. لا أحد سندي غيري.
أحياناً، لا تعرف ما معنى أن تعشق مدينة تعيش فيك، ترفض أن ترحل عنها، تناضل، تقاسي وتحزن، ورغم كلّ التعب والفوضى التّي تسكنك، تختار أن تبقى.
هذا الصّباح، تجتاحني رغبة خفيّة في أن أحضن مدينتي وأبكي، أن أسير في شوارعها، طرقاتها وزواريبها الضيّقة، وأنا أدندن كلمات أغنية عالقة في الذاكرة: لبيروت، من قلبي سلام لبيروت، وقُبَل للبحر والبيوت...
أن أرشف قهوتي في مقهى قديم وأنا سارحة في أفكاري، أحاول طرد تلك الصور والأحداث المؤلمة، حين على غفلة منّا اغتالوا مدينتي وخطفوا ألوانها، ضحكاتها وفرحها؛ وقتلوا الأمل فينا.
أحاول محو تاريخ الرابع من آب المشؤوم من عينيّ وذاكرتي ومن التاريخ.
أشمّ رائحة القهوة الممزوجة بعبير الورد والياسمين وعراقة مدينة فينيقية الجذور، شرقية الهوى وغربية الثّقافة والملامح.
أردت اليوم أن أجلس وحيدةً، وأسير في الطّرقات وحيدة، وبي رغبة في أن أستوقف المارّة وأسألهم بصوت عالٍ وأصرخ:
آه يا عشاق بيروت القدامى، هل وجدتم بعد بيروت البديل؟
أنا لم أجد.
أردت أن أنسى كلّ الدّنيا، أن أحادثها، أخبرها كم يقتلنا حزنها، وجعها وصمتها.
أن أسمع صوتها، ضجيج ناسها وحكايات بيوت بيروت العتيقة.
أردت أن أخبرها أنّنا… وأنّني أقتبس الطمأنينة منها، وأنّنا… وأننّي تركت العالم خلفي ينهار، واخترت الالتفات إلى مدينتي بيروت.
عن تلك المدينة العنيدة الرائعة أتكلّم.
بعد الرّابع من آب المشؤوم، أشياء كثيرة فينا سكتت، وأدركنا أنّ في الحياة فترات انتقالية، فترات محبطة، صدمات لا يُمكن اجتيازها من دون أن يموت شيء في داخلنا؛ وحين نعجز عن تغيير الواقع اللّعين، وكي نحمي أنفسنا، نتجاهل ونمضي بسكون.
أعرف كم هي مرهقة أيامنا هذه! أصبحنا ناضجين قبل الأوان، حذرين ونحن في مساحاتنا الواسعة. أصبحت الكلمات تؤرقنا والذكريات تُعيدنا إلى مربّع الصّمت.
أصبح العالم لغزاً بالنسبة إلينا.
ماذا لو كانت لدينا القدرة على العيش في داخل ذكرى مدينة؟ أيّ يوم سوف نختار؟
ما انفكت الحياة تضربنا بصفعات لا تنتهي من الخذلان والوجع والخيبات، فيتحوّل الحلم في داخلنا إلى صنمٍ جامد لا يتحرّك.
اليوم، أراقب نفسي، الناس، كلّ شيء، بيروت… كلّ شيء من حولي بخير، لكنّه لا يتنفّس…
سأعطي لقلبي النسيان، النسيان المريح الذي يشتهيه المخذولون في كلّ شيء.
لا بأس يا بيروت، أحياناً لا يجب أن نخوض المعركة الخاسرة والمعركة التي ليست لنا.
وإنّه اليوم جئتك، أطرق الباب، وأقول لهم ولك، آن الأوان. قد حان أن نختار، أن نختارك أنت.
اليوم أهمس لك أنّ شياطين العالم، مَن دنّسوك بحقدهم واستباحوا قدسيّتك بفجورهم، مَن شوّهوا جمالك وتاريخك وحضارتك، وصادروا حريّتك وصوتك، وكتموا صوت الحق والعدل والحرّية… إنّهم وربّي يدفعون الثمن الآن.
افرحي، إن الأشرار، قاتلي الحق والحقيقة على هذه الأرض، خسروا وفشلوا في قتلك.
هم إلى زوال، وها هي عدالة السّماء تتحقق.
قومي يا بيروت من تحت الردم، وانفضي غبار الحزن عنك، فأنت مدينة يليق بها الفرح والحياة.
يا مدينة الصلاة من أجلك نصلّي.