النهار

دولتي فعلت هذا، وأكثر
المصدر: النهار - د. جهاد رستم نون
دولتي فعلت هذا، وأكثر
تبعات هذا الانفجار في هذه الأيام العصيبة، كتبعات الحرب العالمية الأولى على لبنان
A+   A-
جريمة بحجم انفجار بيروت وتبعاتها وتعقيداتها تحدث زلزالاً يهز دولاً وأنظمة ويستدعي استقالات على مستويات عديدة وينهي حياة سياسيين وأمنيين. من ركَّب هذا الفيلم، من خلق شركة وهمية، وباخرة الرحلة الأخيرة، من استورد وخزّن وحمى البضاعة وأغرق الباخرة وأرسل ملفاتها في نهايات بدون قعر. من استعمل سمادها أداة لانتحار مرفأ ونحر مدينة؟
رأس الهرم نزل يتفقد مسرح الجريمة بعيداً عن ناسها ويديه في جيبَيه فوق الدماء الساخنة. وعد في أيام خمسة لكشف الحقيقة الموعودة. لاحقاً سألته صحافية عن الموضوع، قال لها: تعرفين في لبنان هناك فصل سلطات. في لحظة التخلّي، مثلنا الأعلى يحترم فصل السلطات. فصل السلطات هذا جعل الجميع أبرياء. الأيام الخمسة أصبحت أربع سنوات وبعد! انتهت المسؤولية عند معلم تلحيم نجا بأعجوبة وناطور عنبر لم يعلم يوماً أنّه ناطور جهنم.
عندما انفجر المفاعل النووي في تشرنوبيل في الاتحاد السوفياتي السابق، عام 1986، استدعي رجال الإطفاء لإخماد النيران. لم يخبروهم أنّ الانفجار نووي والجو يعج بالإشعاعات النووية. وقف الإطفائيون بكلّ حماس على سطح المبنى المتآكل يطفئون النيران. بعد أسابيع، مرض ومات معظمهم. هكذا شهداء إطفاء بيروت ماتوا ولم يخبروهم أنّ خلف الباب الحديدي تنتظرهم جهنم. انفجار المرفأ، انفجار بمفاعيل نووية هدمت الحجر ويأّست البشر، قتلت من قتلت وهجّرت من هجّرت. هو جريمة أصبحت تدرّس عالمياً كنموذج لأكبر انفجار تقليدي بأثر تدميري هائل.
تبعات هذا الانفجار في هذه الأيام العصيبة، كتبعات الحرب العالمية الأولى على لبنان، إذ أتت لتهجّر ثلث اللبنانيين بعدما انهكت الحرب والمجاعة والجراد ثلثهم الآخر، فيما بقينا نحن بقايا الثلث الأخير لنشهد محنة الحرب والمرفا. يبدو أنّ سوء طالع لبنان مع المثالثة والترويكا والثلث المعطل والثلث العاطل قديم من عمر لبنان ولا يزال يرافقه حتى آخر مواطن بريء. يومها حصار جمال باشا وإقفال المرفأ على بواخر القمح جوَّع وقتل اللبنانيين، ويوم فتح المرفأ على بواخر سماد الموت بلا رقيب على أعين المسؤولين غير المسؤولين أوصلنا إلى كارثة بالمفعول نفسه. يومها كان جمال باشا، اليوم انكشف جمالكم يا باشوات السياسة في لبنان!
بعدما يطيل الله بعمركم استجابة لطلبات المؤمنين بمبادئكم، والمنتشين بإنجازاتكم الوطنية، سترحل أجسادكم معطرة بطيب الخاطر وعنفوان الوطن، كاملة في توابيتكم المذهبة وسط صلوات التكبير والإشادة بإنجازاتكم وتضحياتكم. وأنتم على وسادة الموت تنامون نومة الغني الذي سيستنجد بإليعازرخلف باب جهنم. فيما شهداؤنا رحلوا مطيبين بالشحتار والدماء، دفنّا أشلاءهم على دفعات وسط صمت الحناجرالغاصة وعيون حمراء نارية وغصة لا تنضب وغضب لا يزال يتنتظر الانفجار. بالله أخبرونا ماذا تحضّرون في كلّ ذكرى سنوية، أيّ كلام وأيّ مواقف؟ أوتجرؤون على النظر في عيون الناس الثكلى الذين سيخاطبونم؟ يا عيب الشوم.
قضاة يأتون ويرحلون، نجعلهم أبطالاً في مسلسل لا بطل فيه إلّا الباطل وتغييب الحقيقة. دفاترهم باردة فيما الوجع ساخن، حبرهم ازرق فيما الدماء حمراء، قراراتهم غير مستعجلة فيما الحقيقة تئن. نكبر الحجر والاتهامات فينتهي مفعولها كفقاقيع زبد بحر المرفأ تدغدغ أثار الدماء على أقدام الاهراءات التي لا تزال تئنّ في مسرح الجريمة. طلبات ردّ وارتياب ومخاصمة وكل الفذلكات لتطيير التحقيق وتضييع المسؤوليات. تخوين وتهديد القضاة في عقر دارهم في جمهورية المؤسسات وفصل السلطات. اقتصرت التوقيفات على بعض الموظفين الصغار لامتصاص النقمة...
نحن الاوائل عالمياً في كشف الجرائم العادية خلال 48 ساعة. أمّا جرائم بهذا الحجم، الجرائم التي تهدم الوطن لم نصل يوما في لبنان الى كشفها، فهذه وجهات نظر تتقاذف الحقيقة حتى دفنها حية وبحضور اهل الضحية يبكون عليها من معنوياتهم وعنفوانهم قدر بكائهم البيولوجي على فقد احبائهم.
وحدها قلة يائسة محبطة من اهالي الضحايا لا تزال تكافح بحثاً عن حقيقة لن تظهر. فوق حزنهم جعلتموهم متهمين مضطهدين، بدل أن تخجلوا من نظراتهم وآلامهم، سخّرتم الأجهزة لمراقبة افعالهم واستدعائهم بدل تسخيرها لكشف حقيقة تريحهم وتريحكم منهم وتريح لبنان منكم. قسمتموهم فرق تتلهى ببعضها لتمييع السعي الى الحقيقة.
بالنتيجة لا عدالة محلية في الافق فيما العالم أصبح قرية صغيرة والقوانين الدولية وحقوق الإنسان أصبحت عابرة للحدود وأكثر شمولية تجاه الجرائم على مستوى الكوكب. أيعقل الا يكون لهولاء الضحايا باب لتحصيل الحقيقة ولو معنوياً. لا عدالة إلّا قي السماء. هذه صلاة نتلوها في زوايا عجزنا ويأسنا!
ككلّ سنة، نشارك في النشاطات السنوية الباهتة، نشعر وسط خجل الحضوربمرارة الاحباط، لو كنا شعباً حياً لانتزعنا الحقيقة. لكننا شعب يلهونه بيومياته. الى متى سيبقى المرتكبون رواد المنابر والمتهمون أعضاء في لجان العدل فيما أوفياء هذا الوطن رواد المقابر أو مشاريع هجرة.
قال زياد الرحباني: "ما في أقوى من اللي ما بدو شي". وأضيف: "ما في أشرس من اللي ما بقيلو شي. خللولنا شي
الكلمات الدالة

اقرأ في النهار Premium