1.مرَض العصر: الَّلامُبالاة
يعيش الإنسان اليوم حالةَ لامُبالاة فظيعة تُجاه ما يحدث في بَيته وبِيئته وفي مَوطِنه والعالم. لا يكترث سِوَى لما يمسّه مباشرةً -هذا إن فعَل-، وكأنّه "مقطوع من شجرة"، لا جذور له ولا مُستقبل.
راقبوا الأوضاع التي تقُضّ مضاجع الناس في أماكن مختلفة من الكَوكَب، فارِضةً الرتابة والقرَف والاستسلام أمام "قدَر" لا مفرّ منه بنظرِهم: حروبٌ تُدمِّر بلدانًا ثريّةً بمَواردها الطبيعيّة والبشريّة وانقلابات مُسيَّسة لصالح استِعمارٍ متوحِّش وطمّاع لا يُبالي بقَتل الحياة؛ أوبئةٌ مُصطنَعة وأدوية غير ذات فعاليّة أو مُضِرَّة لكلّ الفئات العُمريّة[ لا تقتل غالبًا بل تستغلّ مداخيل الناس الذين يتعاطَونها أو تُطيل أمَد مرَضهم لاستِهلاكها مُطَوَّلًا.]، ولُقاحات تضرب أطفالنا بالعٌقم والتوحُّد والإفراط في النشاط من قبَل الاستعمار نفسه عبر كارتيلات الدواء وشركات التأمين وأجهزة الاستخبارات ومصانعها القتّالة، تُغطّيها وتُشرعن أنشطتها "منظَّمة الصحّة العالميّة" الشريك في الجريمة ضدّ البشريّة؛ أغذية مُسَرطَنة وفاسدة للبلدان الفقيرة تحديدًا، تقابلها أغذية تحمل موادّ سامّة تفرض العُقم والسرطان، وأغذية تُتلف حفاظًا على أسعار البورصة والأرباح الفاحشة للكارتيلات في مُقابل مجاعات تقتل مجتمعات برمّتها ولا مَن يرِفّ له جَفن؛ شبكة الإنترنت مُخترَقة بالكُلِّيَّة؛ عودة انتشار الأُمِّيَّة تعميمًا للجهل والاستعباد المُقنَّع الأفظَع من الذي ساد ماضيًا؛ انتهاكات متعدِّدة الأنواع لحقوق الإنسان: منها الاعتداء الجنسيّ والعُنفيّ على القُصَّر والنساء والرجال والإتْجار بهم، إلى الاعتداء على الطبيعة دون توقُّف؛ التمييز على اختلافه: العُنصريّ والجنسيّ والطبَقيّ؛ سرقة أموال الناس بالاحتيال المدعوم بالتشريع القانونيّ غُبّ الطلب، وتعميم البطاقة المصرفيّة والعُملة الرقميّة سحبًا للنقود للتحكُّم بالناس وبِما يملكون؛ غسل الأدمغة عبر الإعلام بكلّ وسائطه؛ نشر أوبئة إيديُولوجيّة لضرب الجنس البشريّ عبر "الجندَرة" ومُشتقّاتها وُصولًا إلى الَّلامعنى فالخَواء.
مرَض العَصر هذا يُسمَّى الَّلامُبالاة أو "خِربِت، عِمرِت، حادت عن ضَهري .. بسيطة". ما المقصود بهذا الكلام؟
2."عُمرُو ما حدَا يُورَت"
ورَد في اسكِتش تبليغ فيلمون وهبي تِباعًا أنّ زوجته وأُمّه تضاربتَا، وأنّ منزله تعرّض للسرقة وأنّ حائط دارته قد تهدَّم. كما أعلموه بأنّ العنزة قد خرَّبت له الزرع، ففوجِئوا دَومًا بتَرداد اللَّازمة: "بسيطة" وراء كلّ خبَر. ولدى استِغرابهم، عبَّر عن ضجره من الأخبار بارتجال موّالٍ نسَبه إلى جحا: "خِربِت، عِمرِت، حادت عن ضهري، بسيطة". فَقالوا: "نيّالَك، شُو عَبالَك، ظلّك غَنّي أحلالَك، لا تِنسَمّ، ولا تِهتَمّ، ولا عُمرك رَح تِحمُل هَمّ". الَّلامُبالون لا يهتمّون لشيء خارج عن "منطقة راحتهم"؛ ومنهم الجُبناء، أو خائفو البطش والمُلاحَقة والتنكيل، أو المُكتَوون من تجارب شخصيّة أو أُخرى مسَّت قريبين مهم. هؤلاء شعارهم: "ابعِد عن الشرّ وغنِّيلو".
الأسباب الكامنة وراء هذا الشعُور تتعدّد من عُضويّة إلى نفسيّة إلى اجتماعيّة. أمّا ذلك النفسيّ فيكون جزءاً من الميكانِيزمات الدفاعيّة التي تدافع بها الأنا عن ذاتها نتيجة المشاكل الضاغطة التي تفوق قُدرتها فتَهرب من الواقع وتَشعر أن لا فائدة من مشاركتها. يَفقد ذاك الانسان الحسّ بالتفاعل الاجتماعيّ، ويشعر بالاغتراب وبَعدم الانتماء إلى الجماعة، دون إغفال تأثير الناس الذين يبثُّون طاقةً سلبيّة.
3. مَن يتَولّى قضايا الإنسان؟
نلاحظ أنّ ما يحدث من فظاعات بحقّ الناس على المستَويات المذكورة آنفًا وسِواها يهتمّ لها عددٌ من ذَوي الإحساس المُرهَف وأصحاب المبادئ ومُعتنِقي القِيَم، المُلتزمين بقوّة بمُواساة المُستَضعَفين والمظلومين والدفاع عنهم. هؤلاء واعُون وراقُون، يَحملون لِواء الإنسانيّة، دُونما تميِيز بين إنسانٍ وآخَر عندما يحتاج إلى سنَد وتعاطف وعمَل لأجله. ينشط الملتزم في الحقول كافّة ولا يُوفِّر قضيّة مُحِقَّة أو مظلوميّة إلَّا ويتولَّاها بشغَف واندفاع وبطريقة منظَّمة وجَماعيّة. "ويرى فيه بعض المُفكِّرين[ حكيم مرزوقي، الالتزام الفني والأدبي.. واجب إنساني أم لزوم ما لا يلزم، 5 تمّوز 2016.] أنّه جوهر الحياة، إذ لا يُمكن للإنسان ، مهما تمرّد على المفاهيم، أن يعيش بعيدًا عن مبدأ الالتزام. حتى وإن انفلت الإنسان من كل قيد، فإنّ ذلك لا يعني سوى *التزامه* بـ*عدم الالتزام*".
يقول المُفكِّر التُونُسيّ حكيم مرزوقي: "المُلتزمون لهم صفات تكاد تميّزهم في السلوك والنظرة إلى المجتمع، منقولة بحكم التواتر والتأثير، ويتميَّزون بالجديّة والمُثابرة والصدق. ويضيف أحد المُثقَّفين:"يكفي أنّ هؤلاء هم الذين ما زالوا يُمثِّلون ضمير العالم، وصمّام الأمان، في عصر التميِيع والاستِهتار بالقيَم النبيلة*". حتّى إنّ أحد الكُتّاب قال:"كلّ نشاط إنسانيّ لا يصبّ في قضايا الإنسان، هو نوع من التَشويش على الحياة نفسها. وعلى القوانين الوضعيّة أن تَسُنّ لمُرتكِبي الاستِهتار وعدم الالتزام، عُقوبات رادعة".
يَجدُرُ بِنا أن نتَذكَّر: "يتَغيَّر التارِيخ تِلقائِيّاً مِن خِلالِ عَمَلِ أُناسٍ يَضعُون قلوبَهُم في ما يَقُومُونَ بِه، ويَذهَبُون إلى النِهايَة"، إلى الغَايَة.
في الختام هلُمّوا نُنشِد مع الشيخ إمام "عمّال وفلَّاحون وطلَبة دقّت ساعِتنا وابتَدينا" !